ثقافة وفنون

برعي محمد دفع الله: شيخ الملحنين السودانيين-٤-

 

بقلم صلاح  شعيب

وقد يختلف الموسيقيون والذواقة حول مدى تقاطع مقدرة برعي في التعامل مع العود مع مقدرة محمد الأمين، وبشير عباس، وأبو عركي البخيت، وأحمد شاويش – وآخرين من الجيل اللاحق – بوصف أولئك الرواد من أكثر المغنين الملحنين الذين وظفوا العود. ولكن يظل لكل عازف من هؤلاء المبدعين طريقته المميزة في استخراج النغمات الشجية والثرية من هذه الآلة الساحرة. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا يختلف اثنان في أن برعي محمد دفع الله يتصدر حتى الآن قائمة العوادين المهرة الذين أنجزوا عدداً من الألحان والمقطوعات الموسيقية الأخاذة.
ولا ندري ما إذا كان هناك موسيقيون دارسون حللوا هذه الأعمال واعتمدوا عليها لصياغة نظرية سودانية في التلحين، ويمكن أن يعتمد عليها دارسو الموسيقى للتعرف على نمط ثري من أنماط التأليف الموسيقي الذي عبر بقوة عن الوجدان السوداني.
والحقيقة أن تجربة برعي محمد دفع الله في تلحين الأشعار، وتأليف المقطوعات تستحق الدرس والبحث والتأويل، كما أن كفاحه الكبير منذ الأربعينيات لتطوير الغناء والموسيقى في السودان ينبغي أن يصنف ويُعَرف لمصلحة الأجيال المتعاقبة التي تصبوا، بجدية، إلى ترك بصماتها المختلفة التي تمنحها الصيت والكثير من التقدير. كما أن تدريس (منهج برعي في التأليف الموسيقي) يعتبر بمثابة تكريم له، ورد اعتبار حقيقي ومثمن لما بذله في إسعاد جيله والجيلين الحالي والقادم. وعلى هذا الأساس يبقى برعي هرماً من أهرامات الثقافة السودانية التي عبرت عن هويتنا الثقافية وحافظت في الوقت نفسه عليها.
ونظن أن المؤلفين الموسيقيين يعدون من أكثر المبدعين الذين عبروا عن هويتنا الثقافية وربما يتجاوز أعمالهم عمق التنظير الأدبي والإبداعي حول الهوية، غير أن انشغال الموسيقيين بتطبيق أفكارهم حول الهوية السودانية، أو عدم ميلهم للتعبير النظري المدون حول علاقة الموسيقى بالهوية، أحدث نحوهم ظلما كبيرا. فكثيراً  ما تخطتهم محاولات نقاد الأدب والتشكيل لإبراز ونقد تفكير المبدعين السودانيين عموماً حول الهوية. والثابت أن مساهمات موسيقي واحد مثل برعي لا تقل إطلاقا عن مساهمات المدراس الأدبية والتشكيلية مثل الغابة والصحراء، ومدرسة الخرطوم التشكيلية. وربما يستبين الوضوح النظري في مدرسة برعي اللحنية أكثر لما هاتين المدرستين من وضوح نظري في شأن التعبير عن الهوية السودانية المتصلة بالذائقة الموسيقية المنتجة.
وما ينبغي قوله في هذا الجانب هو أن مساهمات المؤلفين الموسيقيين في تمثيل هويتنا الثقافية السودانوية كان أكثر معقولية وأعمق أثراً في التعبير عن الوجدان السوداني، وتوحيده على مقدرات وذوائق جمالية مشتركة. ولو أن المدراس الغنائية قد اجتهدت في إيجاد القواسم المشتركة لثقافة أهل السودان فإنها بتنوعاتها النغمية والإيقاعية والشعرية الفصيحة والعامية وجدت قبولاً متعاظماً في معظم مناطق السودان. ونعتقد أن لا شيء يمكن أن يوحد السودانيين أكثر من الذوق الغنائي الذي يملكونه. فضلاً عن هذه التفردات التي عُرف بها الموسيقيون، فإن رموزهم حققوا صيتاً للوجدان الغنائي السوداني في كثير من دول الجوار، وأكدوا أيضا على وجود القاسم المشترك بيننا والشعوب التي تشاطر وجودنا القاري.
وصحيح أن فرص انتشار غناء وموسيقى برعي أفضل من فرص انتشار لوحة الصلحي، أو شبرين، أو قصيدة محمد المكي إبراهيم. ولكن يظل الغناء بوصفه الحاضن للوجدان أكثر تمثيلاً للذات السودانية التي قبلت الخماسي الذي حافظ عليه برعي في كل أعماله. وهي ذات الذات السودانية التي لم تقبل السلم السباعي الآتي من الخارج، كما أن المقامات السباعية السودانية خرجت بطابع سوداني منحها القبول في كل بيئات السودان.
والسؤال هو: لماذا انتشرت الفكرة التي أتت من المركز العربي بينما فشلت النغمة العربية في أن تجد مكاناً في الذائقة السمعية السودانية؟ ولعل في الإجابة يكمن حقيقة ارتباط مؤلفي الغناء أمثال برعي بجذر سودانوي صرف، ولعلهم هم الأكثر وعيا بمكنونات الذات المتلقية لإبداعات الصوت واللحون والإيقاعات المصاحبة له.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى