مقالات

البداياتُ والنهاياتُ في ذكري رحيل الفنان عبدالرحمن بلاص

 

بقلم/محمدعكاشة

حديثُ ( البدايات والنهايات ) يستلزمُ الحضورَ والانتباه وتَحرّي أوقاتُ السحر.
مُنتصفُ التسعينيّات من القرنِ الماضي يقعُ ضمن ( البدايات ) في حُكم الإنقاذ إذ هي( تتمكن ) قولاً واحداً في هياكلِ الدولة وشِعابِ الوطن وفي حياةِ الناس.
الحركةُ الإسلامية برُغم فكر وإجتهادات الدكتور حسن الترابي ونُزوعهِ المُستمر لتجديد الفكر والفقه الإسلامي إلا أن ( حوارييه ) كانوا أسري لطريقةِ التفكير ( السلفية ) التي تنكصُ إلي الماضي تتأبدُ فيه ولا تستلهمُه لاستشرافِ المُستقبل.
عبدالعزيز الطيب الهندي وقتذاك وعامئذٍ وأقدارُ الحُرية تضيقُ بالناس وبالأفكار وتُطبقُ بخناقِ الصحافة يجدُ سانحةً تندُ لإستصدارِ صحيفةٍ ثقافية اجتماعية في رهانٍ علي إمكانيةِ ذُّيوع النشرِ الثقافي في مُجابهةٍ طليقه لسطوة الصحافة السياسية وهرجُ النقد الرياضي لتُحرز صحيفة ( ظلال ) التي يملكُها توزيعاً لا مثيل‌ له دون إعلان.
الإعلاناتُ كانت أنصبةً معلومة تُوزعها الدولة بقدرٍ ومقدار لمن ( تُحبُ وترضي ) ولكن ( ظلال) تصمدُ بتزايدِ عددِ القُراء وتنامي عائداتُ التوزيع كيف لا ولقد حَقق العددُ الذي حاورت فيه الأستاذة سعاد ابراهيم أحمد خمسين ألف نُسخة بلا مُرتجع.
صحيفة ( ظلال ) الأسبوعية رغمَ هامش الحُرية الضيئل استطاعت بحوار ( شخصية العدد ) إختراقُ القبضة الأمنية حينئذٍ غيرَ أن الصحيفة ما انفكت تتعرضُ لايقافاتٍ مُتكررة بين الفينة والأخري من ( جهاز الأمن ) ومع ذلك أرغمت الأنوفَ وهي تحصُدُ جوائز مجلس الصحافة والمطبوعات كل عام بل ولقد نِلتُ بها علي المستوي الشخصي الدرجة الكاملة علي البحث المُتمم لنيل الدبلوم العالي في الإعلام من جامعة الخرطوم علي يد الدكتور محجوب عبدالمالك رحمُه الله فلقد كان عالماً شُجاعاً أجازَ البحث عن حرية الصحافة في عهد الإنقاذ ومنحهُ ( الامتياز ) في وقتٍ كان ( الأمن ) يُسيطرُ فيه حتي علي الدراسات الأكاديمية.
ثُم..مَطلع يناير عام ألفٍ وتسعُ مائة وسبعٍ وتسعين خرج الإمام الصادق المهدي في عملية ( تهتدون ) ليتركَ جهاز الأمن يتلظي في ضَحضاءِه لا يُلوي علي شيء..فالرجلُ لم يثبُ في خروجه بالسَحر الكجور وإنما علي ظهر سيارته من بيته في ( غفلة رقيبي ) إلي مدينة أسمرا التي كانت ملاذاً آمناً للمعارضة من بطشِ النظام.
يومَ خروج ( الإمام ) من الحصار المقيتُ المفروضُ عليه جلسنا في عمارة دوسه مكتب صحيفة ( ظلال ) بحضور الفنان عبد الرحمن بلاص والذي هو عضوٌ بتحرير الصحيفة ومن ضمن مهامه ( التدقيق) اللغوي ثم هو يدعونا الي منزلهِ لتناول الغداء ولنُفكر بعدد الخميس القادم.
عبد الرحمن بلاص يسكنُ بيتاً بسيطاً بيدأنه ( يتعامدُ ) في بُنيانه علي ركائزَ مكتبةٍ جامعةٌ مانعة وتقومُ الحياةُ فيه علي ( فروض ) المحبةِ مع ساكنيه أفراد أسرته وهم يُكرمونَ ضيفه ثم هو يقترحُ العدد القادم ليكون من إرشيف مكتبته احتفالاً بيوم استقلال السودان.
الفنان عبدالرحمن بلاص يعود بذاكرته إلي يناير عام 1978م حين كلفُه حسن احمدالتوم رئيس تحرير مجلة الشباب والرياضة لإجراءِ تحقيقات مع عددٍ من الشخصيات يختارُها بنفسه.
بلاص يحملُ قلمهُ وأوراقه ويخفُ علي صهوة (بكاسي) الثورة الي الحارة الأولي ليلقي رجُلاً كان يظّنهُ يُحاطُ دونهُ ويتعذّرُ لقاؤه.
ثم..والرجلُ الذي ملأ الدنيا وشغلَ الناس يسحرُ الفنان عبد الرحمن بلاص من قبلِ عشرينَ سنة ليقترحهُ لنا ليكونَ شخصية العدد في ذكري رحيله وفي ذكري الاستقلال المجيد.
عبدالرحمن بلاص يشغلهُ موقفُ الرجل من قضايا الحُكم والمرأة وحُرية الرأي ووحدة السودان.
بلاص بلاريبَ كان قارئاً نهماً وناقداً فَطناً وشُجاعاً يُبدي رأيهُ دونَ شطط أو استخذّاء ثم هو يستشعرُ مكانةَ الرجل حينَ صَعد في ميتةٍ ساطعه من أمامِ قُضاةٍ تالفين يرجُفون في الساحة.
هيئةُ التحرير عند (غداء) عبد الرحمن بلاص وافقت مُقترحهُ ولم تحفَل بالمآلات بحتميةِ إيقاف الصحيفة في أحسن الأحوال ولربما إعتقالُ مُحرريها فالنهاياتُ في( عقائد ) هؤلاء المُحررين هي رهنٌ بالبدايات.
صدرَ العددُ غداةَ الخميس إحياءً لذكري الإستقلال من خلال نشرِ جهود ومقالات ونضالات الأستاذ محمود محمد طه لتتمَ مُصادرةُ العدد ومُساءلةُ صديقنا ( عزيز ) الطيب وإيقافُ صحيفة ( ظلال ) التي مايزالُ مكانها شاغراً حتي اليوم بتعبيرِ الفنان عبد الرحمن بلاص والذي عَكفَ من بعدُ علي أكنافِ مكتبته يقرأ ويكتبُ ويقهرُ العلةَ والسنينَ بصبرٍ جميل.
رحمَ الله بلاص رحمةً واسعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى