ديجافو.. إلى أرواح شهداء ماتوا مرتين

بقلم/فايز السليك
وأسمرا، مدينة الربيع تكتسي خلال المطر حالة مزاجية خاصة، ربما كطعم بنٍ، نكهة حسناء جميلة، نغمة في مقطوعةٍ موسيقية خالدة، أو لوحة متعددة الألوان والأبعاد. أتذكر أول يوم جئتها مثلما أتذكر حضوري اليوم، لم تكن في خيالي صورةً محددة عن المدينة، بل حين يأتي اسمها، تمر بخاطري أحياناً مقاهي حي الديم البائسة في الخرطوم، ووجوه متعبة.
ذاك اليوم ، طار قلبي من قفصه، اصابته رجفة، كأن به مسٌ من الحمى، يتلفت في خجلٍ وفي وجل، قلبي يسكنه طيفها، لكنه يرهقه في ذات الوقت ، أعرف أنها لن تكون هنا، كنتُ قد رتبتُ حضوري ليتسق مع تسميتهم لي ” رجل المفاجآت دوما”، سوف أذهب إلى الفندق، أنام فيه حتى الصباح، أو قد لا انام، لكنني سوف أنتظر شروق الشمس على مضض، أو قل أضع حقائبي داخل الغرفة، في الفندق الواقع في وسط المدينة، على ناصية شارعها الوحيد، الصغير، الجميل، أنزل من الفندق، أخرج أشم هواءً حلواً برغم قلة الإكسجين في بعض الأحيان، يجيؤني صوت صديقتي نورا..
– الإختناق هنا، ليس من نقص الأكسجين، بل من احتراق القلوب.نورا، الأسئلة المعلقة، ما بين اتساع الرؤى وضيق العبارات، أو قل هي امرأة العبارات المفخخة، حين سافرتُ تركتُها هنا، وحين أبتُ أتخيلها هنا برغم قلقها، توترها، تقلب طقسها المزاجي. هي لم تكن يوماً في استقبالي، لكنها تظل أحد تضاريس المدينة، مناخاتها، وتعرجاتها، وقفتُ أتأمل في عباراتها الكثيفة،” هذه المدينة مثل ألبوم الصور، تدهشك روعة صورها عند الوهلة الأولى، تغرق في لجة ألوانها البهية، زخرفتها، تفاصيلها، أبعادها، غرائبيتها، لكنك ستشعر بالرتابة حال تكرار المرور عليها”.كانت تلك آراء نورا، وأنا أخشى أن تكون اصابتني بعدوى مللها، مع أنني أرى أن الصور ولو تكررت؛ تعني لي كثافة أشجان، عمق أحزان، تفاصيل ذكريات، يكفيني أن تكون سناييت هي ألبوم صوري، ذكرياتي، شرايين قلبي، أكسجيني، وما عدا ذلك، من حكايات نعتبرها أضغاث أوهام قومي، من كانوا يجتمعون هناك، في ردهات الفنادق، بياناتهم، كلمات الليالي التي تدفنها النهارات، مارثونات سباق الكراسي، يهتفون “سلم تسلم”، و”الاقتلاع من الجذور”!، اقتلعوا أحلامنا نحن عبر شعاراتهم. وهناك في الخرطومهذي المدينة؛ أحسست أنني جئت إلى هنا قبل ذلك، روحي، سبقتني ، كانت مستنسخة في تلك الشوارع، أحساس بإلفة غريبة، مشاعر شجن تملؤني، تدفعني دفعاً إلى دياري القديمة، كثيراً ما أشعر أن رحلتي إلى هذه المدينة تأتي في سياق البحث عن روحي التي جاءت قبلي إلى هنا ، أنا هنا، منذ زمنٍ بعيد، ربما كانت روحي سبقتني منذ ظهور مملكة كلوبلو، أو جاءت مع مهاجرين قدامى عبروا البحر قبل قرون، أو كانت مفردةً في بيت شعرٍ لقصيدة من قصائد الشاعر الروسي بوشكين قبل أن يهرب جدُّه من مدينة مندفرا إلى روسيا، أكاد أوقن أن جيناتي تخلقت هنا منذ رحلة الصحابة القديمة إلى ملك الحبشة النجاشي.وتلك الَّليلة، حين وصلت الفندق، ترامى إلى أذني قرع أجراس الكاتدرائية، تقرع أجراسها الموزونة، برنينها المنضبط، يقع علي قلبي مثل إيقاع موسيقى حالمة، لا سيما ساعات المطر، ثم تتناغم الأجراس في انسجام غريب مع أذان الفجر المنطلق من مسجد الخلفاء الراشدين، يأتيني صوت الجرس الموسيقي، يضفي على المكان حميمية، وأشجان، ينطلق صوت الآذان قبل أو بعد الجرس، أمتارٌ تفصل الكاتدرائية عن المسجد الكبير، ومساحةٌ من الشجن تفصلني انا عن سناييت، لكن يحتويني صوت نورا، تقول لي، وأنا أقلب معها ألبوم صور المدينة، نقلبها في الذاكرة فقط،- الصورة ليست سوى محاولة يائسة لتحنيط الزمن.وأنا زمني قد تحنط، بقي في شوارع المدينة، أزقتها، حكاياتها. كنتُ مشدوهاً في غياب سناييت، أفكر في برنامجي الصباحي من دونها، وقبل ذلك، سوف أمارس هوايتي في التجوال والتسكع تحت حبات المطر، في شوارع المدينة؛ مثلما كنا نفعل في ساعات نزوات جنوننا، ننتظر هطول المطر، نركض تحته، من يرانا يظن أننا نركض خائفين من البلل والبرد، لكنا كنا نركض حباً للمطر كي يبللنا، يغتسل قلبانا، والمطر لي، يهطل، يتمثل لي في حميمية ممارسة حب، احتساء فنجان قهوة، استنشاق رائحة بنٍ محروق، طقطقة فناجين، طعم فشار. واليوم سوف أتسلل وحدي في قلب دهاليز الأزقة الخلفية، الموازية للشارع الرئيسي، القريبة من الكنيسة الكاتدرائية.استقبلني أصدقاء وصديقات، أقاموا مهرجانات فرح استمرت أسابيع نظموا لي زيارات لمعظم مواقع المدينة، أبهروني برقتها، معمارها الإيطالي، طقسها المعتدل، نظافة شوارعها، التقطنا الصور فوق مدرجات نافورة ” ماي جحجح”، شلالتها، وفي مكان نصب الشاعر بوشكين، والمتحف القريب من القصر الرئاسي، والسلالم التي تصعد بك من شارع إلى شارع من غير جسر، دوار “جيرا فيوري”، تبهرني الشوارع الجبلية، والبيوت المعلقة فوق رؤوس الجبال، مثلما تشدني الأسواق الصغيرة، بائعات البيض والدواجن، البصات الحمراء، الفتيات العاملات في الحافلات كمحصلات للنقود من الركاب. تعرفتُ على أناس جدد، كان من بينهم شابٌ نحيل الجسم، قليل الكلام، اسمه أيوب. أيوب صار مأساتي، لعنتي التي تطاردني، أو قل أحد اللعنات التي تلاحقني، تؤرق مضجعي، طعنةٌ حادةٌ في قلبي، شبحٌ يلاحقني أينما ذهبت، هو وعبد الرحمن، وسيف، والأخير تعذبني ابتسامته، نظراته، ذاك الذي حملتُ أمانته، وكنت ظلوماً جهولاً. عن طريق أيوب، بدأت تتكون لدي صوراً مختلفة، حول المقاومة المسلحة في شرق السودان، خلقت في داخلي بعضاً من الصراعات والتناقضات، زادت من حدة التساؤلات المعلقة التي لا تجد أجوبة قاطعة، أو حاسمة، روى لي الشاب النحيل حكايته، هنا على مدرجات “ماي جحجح”، طلب مقابلتي في ذات المكان الذي أقف عليه الآن، ذات المدرج، قرب المياه المنسابة في هدوء يبعث على الملل أحياناً، فضل أن نلتقي هنا، بعيداً عن أعين رفاقه، كان يخفي شيئاً منهم، جاءني حين علم بوجودي، صمت أيوب لحظات، طار قلبه نحو أمل، أتخيل لهفة حبيبته أمل عليه، ماذا تفعل اذا ما جاءت؟، ولو جاءته وقتها هل ستبدل من الموقف؟ أم عبثية المواقف كانت تجعلها في ضفة موازية له؟. شعرتُ بهواني، ضعف قيمتي، قلة حيلتي، كان ذاك احساسي وقتها، تأنيب الضمير، أنا بعيدٌ في مدينة الضباب، أشكو من ترف المنافي، أبكي ابتعادي عن وطني، فيجئ هذا الشاب ليلقنني درساً في الوطنية، يكشف لي زيف ادعاءاتي، ووهمي. غرق الشاب في لجة السرد، ارتشف جرعةً ، ثم واصل حكاياته، قال لي ، “لقد مضى قطار الثورة، ربما يفوتني، هذا القطار كان وقوده التضحيات والشهداء”، و حين ذكر سيرة الشهداء أرخى الصمت أجنحته فوق المكان ، شعرتُ أنا بلحظة ضعفه، أسمع نشيج بكائه، أحس بتساقط دموعه، مثلما أنتحب الآن، دموعي تتساقط إلى داخلي ناراً تحرقني، وصوته يهزني، قال لي” قوافل الشهداء تسير، تسير نحو الشمس، في سمو، تترك الذكرى والذكريات والتاريخ، هم كواكب تضيئ سماوات النضال، حدثني عن صديقه طبنجة. الفتى البسيط، قادم من عوالم الجنقو، عفوي وجميل، شجاع، ومقدام.. وحديث الشهداء يعيدني أإلى المدينة التي تحمل الشموع، تطفئ الأنوار، وتغلق الحانات في ليلة ذكرى الشهداء. كان صديقي علي متحمساً.. يحدثني بفخر.- كيف نمجد شهداءنا؟
أصمت أنا، لا أملك إجابةً، جميعنا موتى أحياء، كل منا يتحدث عن شهيده، أعود إلى نحيب أيوب، كان النحيب نابعاً من أعماقه عند ذكر اسم طبنجة، قابله في معسكر التدريب لأول مرة، كان طبنجة يلازمه دائما، يصر على مساعدته، كان أيوب أكبر سناً وأقلهم نشاطاً وحيوية، كان طبنجة يقول لأيوب:
– انت استاذ . مالك ومال شغل الجنقو؟
– وهل الحرب شغل الجنقو يا طبنجة؟
– وهل يحارب السياسيون؟-
– أتريدهم فقط حملة شعارات؟
يضحك ضحكته الساخرة، ثم يسأل عن رفيقه عوض السيد، أو العربي كما كان يسميه ثم يصمت طبنجة، ينوم مثل طفل، يدرك نومه من شخيره المتقطع ، الجميع ينامون قبل الساعة العاشرة مساء أمامهم مهام يومٍ طويل تنظرهم مع بزوغ شمس اليوم التالي . وقفتُ مقروراً، تحركتُ ثم وقفتُ ثم تحركتُ متوتراً، تحركتُ، شعرتُ بحاجتي إلى كوب ” كابتشينو”، في ردهة الفندق القريب، كان الوقت منتصف النهار في المدينة، منتصف الفجيعة عندي، تتوقف الحركة هنا مع ” الفادوس”، الجميع يذهبون إلى تناول وجبة الغداء، ليعودوا إلى أعمالهم بعد ساعتين، تخفت الحركة في الشوارع، وتمتلئ المقاهي والمطاعم والبيوت، وأنا تتوقف ساعتي البيولوجية، ثم يصيبني الذهول وقع الفاجعة، تخلو شوارع قلبي من نبض الأحلام،، تمتلئ مسارب الروح بالآهات، والأنات، أحلامنا تتساقط مثلما يتساقط أوراق أشجار الصفصاف تحت راجمات السماء الجليدية، تشحب روحي، مثل شحوب الوطن، تتساقط أوراق عمري تحت راجمات القلوب الصدئة، قنابل الصفقات،، مزادات الساسة، نزوات الحكام، نزق الثوار، أناقة بدلاتهم، ألوان أربطة أعناقهم، ياقاتهم البيضاء، دفئ قاعات المفاوضات، بريق الكاميرات، ضجيج المايكرفونات، وأجندة وسطاء في أزمنة مارثونات الخيبات الكبيرة، وخيبتي اليوم أبكيها فوق ذاك المدرج، ثم يطاردني شبح أيوب حين يحكي عن طبنجة، أبصره ساعة تململ قليلاً، شعرتُ بتوتره، وتبرمه، أحسستُ من جانبي بتبكيت الضمير لأنني أضطررته لاسترجاع ذكريات مؤلمة مع رفاق الأمس .
من رواية دي جافو التي تتحدث عن تجربة المعارضة في شرق السودان واريتريا، حيث استشهد مئات من الشباب الذين طواهم النسيان