مقالات

الاحتكاكات الخمس بين دارفور وشمال السودان

الاحتكاكات الخمس بين دارفور وشمال السودان

بقلم / بابكر عثمان

قبل نشر المقال أدناه ، قمت باستمزاج آراء اربعة من اصدقائي احدهم طارق فرح ، معتمد سابق لابوحمد، ونصحني بعدم النشر لاعتبارات امنية والأخر هو الصحفي الكبير خالد ابواحمد المقيم في البحرين و رآى ان المقال يتضمن رؤية تحليلية معتمدة على معلومات ستغضب الشماليين والثالث ابن اختي احمد عبدالرحيم مكاوي مدير الدار السودانية للكتب وهو من دعاة ذهاب دارفور لحالها ، اما الصديق الرابع فهو البرفسور احمد ابو شوك ، استاذ التاريخ الحديث بجامعة قطر وهو رجل عالم وخبير بتاريخ السودان الحديث والمعاصر وله كتب قيمة منشورة و رآى ان الوقائع التاريخية صحيحة ولكن الاستنتاجات ربما تقود الى جدل جديد .
اليكم المقال
الاحتكاكات الخمس بين دارفور وشمال السودان
من الذي أطلق الرصاصة الأولى في صبيحة 15ابريل 2023 في العاصمة الخرطوم !! ، من هو الطرف الثالث في الحرب الذي أشار اليه وزير الخارجية الأمريكي إشارة خفيفة !! هل هي حرب بين الجنرالين (البرهان وحميدتي) في اطار التنافس بينهما أم أن الإسلاميين هم الطرف الذي حرًض الجيش لاشعال هذه الحرب من أجل استعادة سلطة موؤدة ؟
هذه بعضا من الأسئلة التي يجري حولها جدل لم ينتهي ولن ينتهي ابدا لسنوات قادمة
ولكن هل لهذه الحرب جذور وأسباب أخرى لا يتم التطرق اليها ولا يجري حولها جدل كبير، اذا كانت الإجابة نعم ، فما هي هذه الجذور ؟؟؟!!!!
يؤسفني القول إن وجهة نظري حول مسببات أو أسباب مسكوت عنها في هذه الحرب ، ستكون أيضا موضع جدل كبير .
لنعد قليلا الى الوراء ، فقبل نحو 150 عاما ( 1874 ) حطم الزبير باشا مملكة الفور وقتل سلطانها ( إبراهيم الفضل ) في عاصمته الفاشر وتم ضم هذه المملكة الى حمكدارية الخرطوم وأصبحت بذلك جزءا من المملكة المصرية في السودان ( التركية السابقة )
الاحتكاك الأول
وجرى أول احتكاك للدارفوريين – اذا جاز التعبير – مع أهل الشمال هو ايمانهم بالدعوة المهدية ومن ثم غزو الخرطوم واسقاط التركية السابقة وإقامة دولة المهدية والتي كان عماد جيشها هم من أهل دارفور حيث شنوا حربا لا هوادة فيها ضد من يعارض دولتهم أو فكرهم وقتلوا عشرات الالاف من أهل الشمال او من القبائل التي عارضتهم في دارفور نفسها (عندما أقول اهل الشمال ، لا اقصد قبائل نهر النيل ولكن كل اهل السودان ) وفي تلك السنوات ( 1885 – 1898 ) من لم يمت بالرصاص مات بالجوع أوالتشريد
عادت دارفور مملكة مستقلة خلال الفترة من 1898 الى عام 1916 تحت قيادة سلطانها ( علي دينار ) ولكن مرة أخرى حشد الانجليز جيشا لغزوها ، كان قوامه جنود من اهل الشمال والمصريين تحت قيادة وينجت باشا و تم تفكيك السلطنة وضمها الى الخرطوم.
اتخذ الانجليز فيما بعد سياسة حذرة للغاية في التعاطي مع أهل دارفور، حيث كانوا يعتقدون ان الأصولية الإسلامية والتشدد مصدره من تلك المناطق فأهملوا نشر التعليم ، كما أهملوا أيضا إقامة مشاريع التنمية فيها وركزوا فقط على السودان الشمالي ، فأقاموا مشاريع السكك الحديدية والمشاريع الزراعية ونشروا التعليم على نطاق واسع وبعد نحو خمسين عاما ( 1900 – 1955 ) تأهل الشماليون على نحو معقول لوراثة الانجليز في حكم ما سمي بجمهورية السودان والتي تشمل السودان القديم ( مملكة سنار) إضافة الى ما تبقى من مملكة دارفور و أقاليم جنوب السودان.
ولكن هل نجح الشماليون في إدارة السودان الموروث من الانجليز على نحو سليم !!! ( 1955 – 2023 ) ، يؤسفني القول إن قيام الحرب في الخرطوم في هذا العام هو ذروة الفشل المريع في إدارة التنوع في السودان
ولكن قبل ذلك ، برزت ملامح هذا الفشل قبل نحو أربعين عاما عندما هجر سكان الأقاليم مدنهم وقراهم في أواخر السبعينات من القرن الماضي واتجهوا صوب الخرطوم ، ففي ظرف خمس سنوات ( 1980 – 1985 ) تكدست العاصمة بنحو مليون نازح من إقليم دارفور وحده ، إضافة الي نحو 400 الف من الاقليم الجنوبي
الاحتكاك الثاني
جاء الاحتكاك الثاني مع السلطة في الخرطوم عام 1976، عندما شكلت الأحزاب المعارضة في الخارج ( حزب الامة – الحزب الاتحادي – الاسلاميين ) جيشا معظم جنوده من أبناء دارفور حيث جرى تدريبهم في ليبيا و من ثم ارسلوا للخرطوم في يوليو من ذلك العام لاسقاط نظام جعفر نميري، وكما نعلم فشلت تلك الحركة وفي أول اجتماع ضم عددا من انصار النظام اقترح المفكر والدبلوماسي النبيه ( د.احمد عبدالحليم ) اطلاق وصف ( المرتزقة )علي هذه الحركة ، فطفق الاعلام المايوي يردد على مسامع السودانيين تسمية ( حركة المرتزقة ) لسبب بسيط وهي حشد التأييد للنظام من سكان الخرطوم الشماليين الذين يحتفظون بذكريات سيئة عن فترة استيلاء الدارفوريين على الخرطوم قبل تسعين عاما من دلك التاريخ.
الاحتكاك الثالث
وبعد نحو 10 سنوات من غزو المرتزقة جاء الاحتكاك الثالث، حيث اسهم ما كان يُطلق عليهم الشماسة – وهم أبناء دارفور الذين سحقتهم المجاعة الناتجة عن الجفاف وانعدام التنمية في مناطقهم ونزحوا الى الخرطوم – في اشعال الخرطوم خلال أيام الانتفاضة ( 1985)، وكانت انتفاضتهم في ذلك الوقت عبارة عن احتجاجات يحرقون فيها إطارات السيارات وبعض اعمال النهب والفوضى واطلق الاعلام المايوي على تلك الاحتجاجات ( انتفاضة الشماسة ) وانتهت بسقوط نظام نميري ولكن تلك الانتفاضة لم تثمر عن شيء سوى مزيد من التدهور في معيشة السكان ، فالنظام الذي أسسه الشماليون وتعاقبوا على حكمه ابتداء من الأزهري و مرورا برئيس الوزراء عبدالله خليل وعبود ونميري والصادق المهدي وعمر البشير لم يستطع ابدا أن يلبي تطلعات شعوب السودان بمختلف اثنياتها وقبائلها ومناطقها واقاليمها في إرساء دعائم الحكم الرشيد القائم على اللامركزية والتنمية والتوزيع العادل للثروة والسلطة، ونتج عن ذلك انهيار البنى التحتية للدولة وتدهور معيشة سكانها ونزوج وهجرة ابناءها الى العاصمة او خارج البلاد.
الاحتكاك الرابع
لايمكن اغفال محاولة حركة خليل ابراهيم دخول الخرطوم في عام 2008 ، لقد كانت تلك المحاولة التي جرت في 10 مايو واستمرت ليومين امتدادا للحرب المستعرة في دارفور منذ عام 2003 والتي يتصدر مشهدها ( قوات (العدل والمساواة ) ويمكن القول دون مواربة ان تلك العملية هي احتكاك مباشر بين الدارفوريين الذين يقاتلون من اجل العدل والمساواة وبين السلطة في الخرطوم ، وكان خليل ابراهيم نفسه جزءا من الحكومة قبل ان ينشق عن الحركة الاسلامية و يتجه الى دارفور لتشكيل قوات محاربة وتم الكشف لاحقا ان هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن هي من تصدت للمتمردين الدارفوريين ودحرهم
الاحتكاك الخامس
اخلص من كل ذلك الى أن الاحتكاك الخامس بين سكان دارفور وسكان العاصمة القومية والتي يغلب عليها الطابع الشمالي هو هذه الحرب الدائرة في الخرطوم الآن
تحاول الآلة الإعلامية للدولة السودانية المتداعية تصوير ما يجري حاليا بأنه تمرد قام به جنرال طامح الى السلطة وانه يريد ان ينفذ انقلابا دمويا ، وانه – لا قدر الله – اذا استطاع هذا المتمرد ( حميدتي ) بجيشه ان يستولي على السلطة فإنه سيقضي على الدولة السودانية ويشيع فيها الدمار والفساد ونهب مقدرات المواطنين.
مرة أخرى تحشد السلطة أهل الشمال في إتجاه يفيد بأن هؤلاء المتمردين هم مرتزقة أجانب جاءوا الى دياركم لنهب ثرواتكم واغتصاب نسائكم.
إذن ما يجري حاليا هو الاحتكاك الرابع في ظرف مائة وخمسين عاما ( خمسة أجيال ) ولكنه هذه المرة احتكاك دموي هائل ، سينتج عنه دون ريب إعادة تشكيل الدولة السودانية من جديد
أما ملامح الدولة السودانية الجديدة فلا أحد بمقدوره ان يتنبأ بمآلاتها ، ولكنها على كل حال ستفضي الى دولة جديدة تأخذ في حسبانها توزيع عادل للسلطة والثروة بين إقاليم السودان جميعا
والله المستعان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى