
المُؤسَسةُ الصُوفيّةُ في السُودان ورعِايةُ حُقوقُ الإنسان
بقلم/محمدعكاشة
عُنوانُ هَذهِ الورقةُ “التَديّن الشَعبي ورِعايةُ حقُوق الانسان” عُنوانٌ يَتطلبُ توضَيحاً بما يَتقصدُه من دلالةٍ وما يرمزُ إليه من معني وهو أنَ التَديّن الشَعبي مقالةٌ تُشيرُ إلي حركةِ التصُوف والصُوفيّةُ في السُودان وهو استخدامٌ لا أزعمُ حقاً في افتراعهِ بقدرِ ماهو عُنوانٌ يدعُ مجالاً لضمِ آخرينَ غير الصُوفيين من أهلِ التَديّن.
هذا برغُم أن التصوفُ بحسبِ الكثيرين من المُؤرخين والباحثين خصوصاً الشيخ البروفسورحَسن الفاتح قريبُ الله يذهبونَ إلي أن التصوفَ ومُنذ ظُهوره عقبَ انتشارِ الإسلام فى السودان أنه– التصُوف – هو المُتنفسُ الطبيعي لأهلِ السودان وقد وسمَ مِزاجهُم بشكلٍ كبير وهو ماقد يَلمحُه الرائي فى النزعةِ الروحية التي تَسمُ حياةَ أهل السودان لا يندُ عن هذا المِزاج سوي استثناءاتٍ محدودة.
الورقةُ من جهةٍ ثانية لا ترومُ اعتسافَ حقائقَ المؤسسةِ الصُوفية فى رعايتها حقوق الإنسان بما يتماهي مع ماجاءَ بآخرهِ من دعواتٍ ومواثيقَ وإعلانٌ لحقوق الإنسان ذلك لان التصُوفُ فى السودان في استمدادهِ العَميق والثَر من الكِتاب والسُنة هو يُؤمنُ على رعاية الحقوق بحفظِ كرامةِ الإنسان وحُريتّهُ فى التفكيرِ وحقهِ فى مساواةٍ دونَ حَيفٍ أو ظُلامة لذا فانَ غايةَ ما ارجوه وأطمحُ إليه من خلال هذه السُطور هو تقديمُ صورةٍ عن المؤسسةِ الصوفية السُودانية من خلال بعضِ الصور الباهرة والتي أخذت تتضامُ لتعكسَ لوحةً قَشيبة لمُجتمعٍ مُتقدم روحيّاً وانسانياً.
المشيّخاتُ والتكايا والزوايا علي امتدادِ رقُعة السُودان الجُغرافية ظلت تقومُ بدورٍ مُتعاظم بشأنِ حقِ التعليمِ المنصُوصُ عليه لاحقاً ضمنَ مباديءَ الإعلان الدولي لحقوقِ الإنسان.
ظَلت هذهِ المقاماتُ تفتحُ أبوابها لطلبةِ العِلم يفدونَ دُورهُا وخَلاواها للعِلم مُنذُّ قُرونِ وهي تُوفرُ لهم مُستقراً يَسكنون إليه وأشياخاً يقومونَ بتحفظيهِم القُرآن الكريم وبعضُ ما يَحتاجونه من فقهٍ يُعينهم علي أداءِ الفُروض ودروسَ في اللُغةِ والحِساب.
نهضَ (المسيد) عبرَ الحِقب بدورهِ في تَعليمِ أبناء السُودان دون تمييزٍ بسببِ اللونِ أو العُنصر أو الفئاتِ العُمرية ودون افتئاتٍ علي الآخرين بل وهو أولُ من حققَ مَجانيةَ التعليم إذ يَجيئُه الطُلاب بواسطةٍ ذوويهم ليسَ لهم سوي ما يلَبسونُه علي اجسادهِم فقط ويَقومُ (المسيد ) بتوفيرِ السكن والغذاءِ والكِساء وتأمينِه طِوال فترةَ دراسته وحِفظِ سلامتهِ الشَخصية دونَ مُقابل وفي بعضِ الخَلاوي ينهضُ القائمين علي الأمر بتعليمهمِ حِرفةً جديدة تكونُ مُعيناً لهم في الحياة خُصوصاً التي تقعُ فى مناطقَ زراعية أو قريباً من المراعي.
ثمَ وعندما تطورتِ الحياةُ لاحقاً تطورَ التعليمُ المُصاحبُ لتحفيظِ القرآن وعلومهِ حيثُ أنشأت بعضُ المشيخات معاهدَ للتعليم الديني ينتقلُ إليه الطالبُ بعد استظهَاره لكتابِ الله ليقومَ بتلقي بعضُ العلوم فى الفقِه والسُنة والميراث واللغةِ ومن ثمْ تخرجُه إما ليُكابدَ الحياة وقد نال حظوةً من تعليم يفكُ جهلهُ وقد استعي علماً نافعا أو عبرَ ابتعاثهِ إلي مؤسسات تعليمية أخري وقد حفظَ (المسيد) من خلال هذه الحِصة من التعليم لنفرٍ كبير من التقدُم الي وظائفَ حُكومية رغم محدوديتها وارتباطها بصورةٍ عامة بالمؤسساتِ التعليمية أو ذاتُ الشئوون الدينية إلا أنها ساهمت فى تعليم فردٍ والدفعُ به الي الحياةِ العامة.
في ذاتِ الاتجاه وعندَ بُروزُ التعليم النظامي لم تكتفِ المشيخات بتعليمِ الطُلاب في الخلاوي والمعاهد التابعةُ لها وإنما دفعت ببعض النوابغِ إلي المدارسِ إضافةً الي ان بعض البيُوتات الصُوفية فى الخرطوم عاصمةَ البلاد كانت تنهضُ بعبءِ تعليم بعضِ الطلاب من ابناءِ مُريديهم والذين يَفدونَ من الاقاليم رغبةً فى مُواصلة التعليم فى الجامعات حيثُ يقومُ (الشيخ) بتوفيرِ سكنٍ لهم داخل (مسيده) ومايَستلزمُ ذلك من خدماتٍ حتي مصاريفُ الدراسة وقد نبغَ عددٌ كبير من هؤلاء فى مجالاتِ الطبْ والهندسة والمحاسبة.
في الفترةِ الأخيرة قامت بعضُ المشيخات باستحداثِ كُليات للعلوم الحديثه تترافقُ مع ما تُوفرهُ خلاواهم ومعاهدهم خُصوصاُ في الاقاليم والقُري ويقوم مثالاً لذلكَ كلية الشيخ عبدالله البدري في مدينةِ بربر بشمال السودان حيثُ اسهام طريقتهِ فى تيسيرِ فُرص التعليم الحديث لأبناءِ وبنات المنطقة بصورةٍ متساوية مع نُظراءهم في العاصمة والمدن الكبيرة.
دورُ (المسيد) في السُودان لا يقفُ عندَ موضوعةِ التعليم والمُساواة وصِيانةِ كرامةِ الانسان مما تَنُصُ عليه مباديءُ وحقوقُ الإنسان وإنما تتعَداهُ إلي مسائل أخري بضرورةِ تعليمِ المرأة وحِفظِ حقها سواءً بالتعليم الديني غيرِ النظامي إذ نَهدَ في شرقِ السودان رجالٌ صالحين يثقبُون المُستقبل أمثالُ الشيخ علي بيتاي وكذلك مشائخُ خلاوي همشكوريب فى مُجتمعٍ يعتبرُ خروجَ المرأة ترفاً لاطائل من ورائهِ وهو مع ذلك بَذلَ جهداً كبيراً في مُغالبةِ الثقافةِ السائده يستحثُ الناسَ لتعليم بناتهم وتعليمهم علومَ دينهم ليحفظنَ حقوقَ آبائهِن وأزواجهِن ومع إقبالِ هؤلاء الي ذلك تَنامي تعليمُ المرأةِ فى تلكَ البقاع ليتقدمَ التعليمُ في المنطقةِ ويُحدثُ نقلةً كبيرةً في حياتهم ويُعززَ الثقةَ في نفوسِهم تجاهَ تعليمِ بناتهِم هذا فضلاً عن مُساهمةِ المؤسسة الصُوفية في مُحاربةِ الظواهرَ السالبه في المُجتمع برعايةِ حقوقِ المرأة فى عَيشٍ كريم وحياةٍ مُستقرة بالدعواتِ المُستمرة إلي بناءِ الأسرة بوعي مُتقدم بل وساهم بعضُ الاشياخ في مُحاربةِ العاداتِ الضارةِ مثلُ خِتان الإناث الذي يشغلُ بالَ منُظمات حقوق الانسان ولقد جَاهرَ بعضُ عُلماءُ الصوفيين بخطرِ تلك وضرورةِ الحدِ منها بينما يَتلجلجُ كثيرٌ من عُلماء الجماعاتِ الدينية الأخري عن مُجرد الخوضِ في مثلِ هذه الأمور هذا أن لم يقوموا بتلبيسِ مخاطِرها وحقائقِها على الناس.
التَدينُ الشَعبيُّ في السُودان أو التصوفِ بحُكم مصادرهِ ومُلابساتُ دخولهِ السُودان ينتشرُ مُترفقاً بعاداتِ وتقاليدِ الناس عبرَ مُحاولات ادماجهِم في حياةِ التصوفِ ورعايةِ حقوقهم وثقافاتهم حيثُ ينتبذُ العنافةَ والقهرَ في دعُائهم إليه عن رضيً وطواعية وهو في ذا يَستمدُ من طاقةٍ روحية هائلة جعلتهُ طِوال القُرون موئلاً للحكمةِ وظلت مراكزهُ كذلك مقاماتٍ لبثِ روح السلام والتعايش السِلمي حيثُ لم تشهدُ نواصيّه العُنفَ والحَرابة والإرهاب بل ظلَ السادةَ الصُوفيين عماداً لدعواتِ الإصلاح السياسي والاجتماعي حتي هذه اللحظةِ لينهضَ (المسيد) بدورٍ فَعال في فضِ المُنازعات وردِ الحقوق دون مَنٍ أو استكثار.
عودٌ على ذي بِدء..
هذهِ الورقةُ تُقدمُ إشاراتٍ حولَ المفهومِ الكبير لمعاني حُقوق الإنسان وتُقدمُ ما للمؤسسة الصُوفية فى السُودان من دورٍ فى تعزيزِ ذلك عبرَ سنواتٍ طويلة حيثُ ضَمنت للإنسان حقهُ في المساواة والحُرية والعدالة وبناءِ الشَخصية السودانية علي أسسٍ تَحفظُ كَرامتهُ وتَحفظُ حَقهُ في التعليمِ وتعملُ علي إدماجهِ في نسَيجِ مُجتمعهِ وثقافاتهِ بمايَتسقُ وأُصولهِ الفِكرية والدينيّة وتدفعُ بالمُجتمع للعيشِ في سلامّ مُستدام دونَ عُنفٍ ورهابٍ فكري فى سَماحةٍ عظيمة ودونَ إرهابٍ للآخرَ ودونَ تمييزٍ تَضيقُ معهُ حَياةُ الإنسان.
….
هذه الورقةُ قدمتُها فى أعمالِ مؤتمر حقوق الإنسان الذي انعقدَ فى الفترة 17-18- يونيو 2013 بمدينةِ بني مِلال بالمملكة المغربية ضمنَ الذكري الثالثةَ والاربعين للثائرِ سيّدي محمد بصيري وكنتُ ضمنَ وفدٍ ضم الشيخان مُحمد محمد الفاتح قريب الله وقريب الله الزين رحمهما الله رحمة واسعة.