مقالات

الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام – الحلقة الثانية

بقلم / بابكر عثمان

تحدثنا في الحلقة الماضية عن استباحة الخرطوم الأولى ، او ( خراب سوبا ) كما جرت العادة على تسمية ما جرى لمملكة علوة المسيحية والتي كانت تتخذ من سوبا ( جنوب شرق الخرطوم ) عاصمة لها
أصبحت الخرطوم مرة اخرى عاصمة لدولة جديدة نشأت في السودان ( التركية السابقة 1821-1885 ) وهي الدولة الظالمة والتي انهارت تحت اقدام انصار الامام المهدي في 26 يناير 1885
ولكن ماذا جرى في الخرطوم صبيحة 26 يناير 1885 ولثلاثة ايام لاحقة.
يمكنني القول ان المصادر التاريخية في هذا الجانب شحيحة للغاية ، لقد تجنب معظم رواة التاريخ السودانيين الخوض في هذا الأمر ، لأن ما جرى خلال تلك الايام أمر شديد القسوة وبعيد عن الانسانية وموغل في الوحشية و لا يمت للاسلام بأي صلة ، ولكن بعض المصادر اوردت اشارات عامة ومنها كتاب نعوم شقير وهو ضابط مخابرات رافق حملة كتشنر ووضع كتابا مرجعيا بعنوان ( تاريخ وجغرافية السودان ) او مشاهدات لرجل قبطي هو يوسف ميخائيل وكتب مذكراته وكان يعمل لدى الخليفة عبدالله التعايشي اما الرجل الثالث فهو اللواء ابراهيم فوزي باشا وقد كان ضابطا في الجيش المصري في السودان في ذلك الوقت وكان مرافقا لغردون باشا في ايامه الاخيرة بالخرطوم وضًمن مذكراته كتابا من جزأين بعنوان ( السودان بين يدي غردون وكتشنر )
ويلاحظ ان هذه المصادر جميعها لكتاب اجانب معادين للثورة السودانية ولكن بالنظر الى ان المهدي افتى بان الترك والمصريين الموجودين بالسودان كفارا بحكم ظلمهم وفسادهم فقد احل قتلهم وسبي نسائهم ومصادرة اموالهم ، لذلك فإن ما جرى لتلك الجاليات أمر طبيعي في ظل تلك الظروف الغريبة.

وصل غردون الخرطوم في فبراير 1884 بهدف إخلاء السودان من الحاميات المصرية وتلك قصة طويلة ومهمة عسيرة بعد ان وصلت الثورة السودانية الى ذروتها بعد هزيمة الجيش الذي ارسلته مصر بقيادة هكس باشا في معركة شيكان ( نوفمبر 1883 ) واورد المؤرخون ان عدد الجنود المتبقين في السودان في ذلك الوقت بلغ نحو 40 الف جندي فقط في دولة مترامية الاطراف من دارفور غربا الى سنار في الجنوب الشرقي الى كسلا – القلابات على الحدود الأثيوبية والى دنقلا في الشمال
كان يقطن الخرطوم خلال فترة حصارها والتي امتدت من مارس 1884 الى وقت استباحتها في ضحى السادس والعشرين من يناير 1885 نحو 50 الف شخص ( نعوم شقير ) أو 200 الف ( ابراهيم فوزي باشا ) وكان اكثرهم من المصريين والمولدين والاجانب ونحو 7000 من الجنود المصريين والشايقية، وعندما بدا الحصار في مارس من تلك السنة انخفضت معنويات السكان وبدات مخزونات الحبوب في النفاد وارتفعت اسعارها وقيل إن غردون أحصى نحو 3000 متسول في ابريل 1884 وامر بصرف مؤونة شهرية لهم.
كان الحصار في شهوره الاولى خفيفا ولم يكن المهدي قد شد العزم الى ام درمان بعد، بل ان غردون تمكن بفضل تصميمه وشجاعته في فك الحصار في اغسطس من ذلك العام ولكن الخروج من الخرطوم وإجلاء السكان والحاميات أصبح بمرور الوقت يزداد صعوبة ، خصوصا ان الثورة السودانية شملت كل انحاء البلاد تقريبا ، فالفساد والظلم الذي مارسه المصريون على مدى ستين عاما مس كل طفل وامرأة ورجلا في السودان ، كان الناس ينظرون الى المهدي كمخلص لهم ، وكانوا ينظرون الى انتصاراته المتتالية كمعجزات سماوية.

ولكن كيف كان ينظر غردون الى السودانيين !!!
تشارلس غردون ضابط انجليزي عظيم وله معرفة عميقة بالسودان على مدى نحو اثنتي عشر عاما، منذ 1873 عندما حضر لاول مرة كقائد لخلافة صمويل بيكر في ما بات يعرف لاحقا بأقليم الاستوائية ثم اصبح حاكما عاما للسودان 1877-1880 ثم عاد مرة اخرى في فبراير 1884 لإخلاء السودان من الحاميات المصرية بتفويض من مجلس الوزراء البريطاني ، ولكنه قبل قبوله بتلك المهمة ادلى بتصريحات هامة للغاية لجريدة ( بال مول غازيت ) اعرب فيها عن تقديره للشعب السوداني وقال ان سبب الثوره في السودان هو شبيه لكل الثورات الشعبيه ضد الحكم التركي في اي مكان حدثت.
وأضاف في تلك المقابلة والتي صنفت في تاريخ الصحافة العالمية كاول مقابلة صحافية بنظام ( السؤال والجواب ) ” السودانيون اناس طيبون جدا، انهم يستحقون التفهم والتعاطف الصادق من كل الشعوب المتحضره. لقد تأقلمت معهم بشكل جيد، وانني لجد حزين لاحتمال رؤيتهم وقد سُلموا من جديد لسحقهم بواسطة جلاديهم الاتراك والشركس.)
( انهم يستحقون مصير افضل من هذا. يجب الا يكون مستحيلا الوصول الى اتفاق معهم، يمنحهم عفواً عاماً عما مضى، ويضمن لهم حكمأً قويما في المستقبل.)
وقال ايضا ( اذا تم هذا، واسندت الحكومة الي شخص صادق في كلمته، فأنه لا زال بالامكان اعادة الامور الي نصابها.)
بعد تلك المقابلة استدعى مجلس الوزراء البريطاني غردون الى لندن وكلفه رسميا مهمة الذهاب الى الخرطوم وإخلاء السودان من الحاميات المصرية ولكنه صرح لاحقا بضرورة تعيين الزبير باشا رحمة حاكما عاما للسودان وكان يعتقد ألا احد سوى الزبير باشا يمكنه ان يواجه المهدي وجيشه و افكاره وشخصيته الكارزمية ولكن ولسؤ حظ السودان عملت جهات متعددة على اجهاض هذه الفكرة ومنها جمعية محاربة الرق في لندن ، وتلقى غردون خطابا من حكومته في 5 مارس 84 يتضمن رفضا نهائيا لفكرة تعيين الزبير باشا حاكما للسودان
تعين على غردون حينها ان يواجه مصيرا مظلما وهو يرى حشود الثورة السودانية تتصاعد وانقطاع الطريق نحو الجلاء ، كما ان فكرة الاستسلام لم تكن واردة البتة ، لم يكن هناك من امل سوى ان ترسل بريطانيا جيشا لنجدته ، وهو امر لم يحسمه رئيس الوزراء المتردد ( جلادستون ) الا في سبتمبر عندما ضغط عليه الرأي العام ، فجلادستون كان غاضب من ان غردون لم ينفذ مهمة الإخلاء التي ارسل من اجلها، ويبدو انه لم يتمعن جيدا في التصريحات التي ادلى بها غردون قبل سفره الى السودان.
وقبل ذلك بشهر كان المهدي قد حسم أمره ، فعين عبدالرحمن النجومي قائدا عاما لقوات محاصرة الخرطوم وامره بالتحرك الفوري لمحاصرتها ، فلبى النداء وعسكر بقواته في الكلاكلة ولاحقا جاء المهدي بنفسه في سبتمبر وعسكر بقواته في ابوسعد بامدرمان ، وتم حصار الخرطوم من جهاتها الاربعة
وعندما حل شهر يناير 1885 كانت الخرطوم تعاني من حصار منيع وبدأ السكان ومن معهم من قوات يحسبون الايام لاجتياحهم، اما غردون والذي بدا اليأس يدب في قلبه فلم يكن امامه امل غير وصول قوات الانقاذ والتي وصلت وقتها الى شندي ولكنها تواجه صعوبات عظيمة في التقدم بسبب مقاومة السكان
تبادل المهدي وغردون الرسائل ويبدو ان المهدي كان يكن احتراما كبيرا ل غردون باشا وابلغه في احد رسائله أنه يتمنى له الخير بسبب ما يسمعه عنه من طيب الكلام وانه سيسمح له بالعودة الى بلاده دون فدية ، وعندما حانت لحظة دخول المدينة وجه المهدي اوامر واضحة وصارمة للقائد محمد نوباوي المكلف باقتحام السراى بعدم المساس بغردون وبأن يأتي به حيا ولكن يبدو ان نوباوي تلقى امرا سريا من عبدالله التعايشي بقتله ففعل .
وحسب ابراهيم فوزي باشا وكان بمثابة محافظ مدينة الخرطوم وقد اورد في كتابه ( السودان بين يدي غردون وكتشنر ) أن نحو 24 الف شخص من سكان الخرطوم قد تم قتلهم في اليوم الأول للاجتياح بينهم ثلاثة نساء فقط ، بينما تم سبي نحو 35 الف امراة وهو يقول ان السكان بلغ عددهم في ذلك الوقت نحو 200 الف ، اما هو فقد تم اعتقاله وتعذيبه لعدة ايام قبل ان يقر بالمهدية ويبايع المهدي.
في ذلك اليوم تم قتل جميع قناصل الدول الاجنبية ومنهم القنصل الامريكي وكذلك العلماء
وهكذا وقعت الخرطوم في قبضة المهدي وانتهت دولة الظلم التي اقامها محمد علي باشا في السودان على مدى 64 عاما ، غير ان دولة العدل لم تقم ابدا
في الحلقة القادمة سنكتب عن الاستباحة الثالثة للخرطوم والتي لم تنته احداثها بعد.
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى