رفع الدعم وحده لا يكفي

بقلم / مامون حاتم الفنوب
بكالوريوس اقتصاد – جامعة الخرطوم
يعتبر مليتون فريدمان احد ابرز الاقتصاديين في القرن العشرين المدافعين عن اقتصاد السوق الحر وعدم تدخل الدولة في الاسواق، ومن أبرز مقولاته في هذا الصدد إن التضخم دائما ما يكون ظاهرة نقدية، والمقصود بذلك أن التضخم دائما ما يكون نتيجة لاعتماد الدولة علي طباعة النقود، حيث تؤدي هذه السياسة الي تدهور قيمة العملة الوطنية مقارنة بالعملات الأخرى وبالتالي ارتفاع اسعار السلع والخدمات، ويري فريدمان أن علاج التضخم يكون بالتوقف عن طباعة النقود او ما يعرف بالتمويل بالاستدانة من البنك المركزي.
لتحقيق هذا الامر يجب الاعتماد في تمويل نفقات الدولة اما من خلال ايرادات الدولة مثل الضرائب او من خلال القروض التي تقدمها مؤسسات التمويل سواء كانت داخلية او خارجية. وبالتالي يتم تجنب طباعة النقود الى الحد الأدنى.
عند مراجعة التاريخ نجد ان هذه السياسة (طباعة النقود) ادت لنتائج خطيرة في كل مرة تلجأ دولة ما الى تبنيها ، فألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى علي سبيل المثال لجات لطباعة النقود لسداد المبالغ المالية الضخمة التي فرضت عليها كتعويضات نتيجة لخسارتها الحرب، وأدت تلك السياسة الي انهيار المارك الالماني وبالتالي الاقتصاد الالماني وكان ذلك سببا رئيسيا لصعود النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية.
و في افريقيا ادي اعتماد حكومة زمبابوي علي طباعة النقود لتغطية العجز الي انهيار العملة الوطنية، مما دفع الحكومة الي استبدالها بالدولار الأمريكي.
اما في السودان فالوضع لا يختلف عن الامثلة السابقة، فمنذ استقلال السودان في العام ١٩٥٦م، دأبت الحكومات المتعاقبة على طباعة النقود لتغطية نفقات الدولة وذلك بسبب عدم كفاية الايرادات الضريبية، واستمر هذا الوضع حتى الاطاحة بحكومة الاسلاميين بعد أشهر من الاحتجاجات نتيجة التدهور المريع للوضع الاقتصادي.
اتسم اداء الحكومات التي انت بعد الاطاحة بالإسلاميين بعدم الوضوح وعدم اليقين نتيجة تركة مريعة من الانهيار، ففي البداية كان الاتجاه هو تقليل (الانفاق لتجنب التمويل بطباعة النقود) وذلك برفع الدعم عن المحروقات ببطء وتردد. واستمر هذا الوضع حتى استقالة حكومة حمدوك الاولي وحين اتت حكومة حمدوك الثانية، اتخذت اجراءات اكثر جرأة و ذلك من خلال رفع الدعم عن المحروقات كلية ولكنها في المقابل سعت لتخفيف اثر رفع الدعم علي الشرائح الضعيفة من خلال بعض البرامج الاجتماعية المدعومة من البنك الدولي مثل برنامج ثمرات. واستمر هذا الوضع حتي انقلاب الجيش في اكتوبر الماضي، مما ادي فورا الى وقف الدعم الخارجي للسودان
سعي الإنقلابيون الى تعويض الدعم الخارجي من خلال زيادة الايرادات الحكومية وذلك عن طريق زيادات كبيرة في الجمارك والضرائب. بينما استمرت زيادة سعر الوقود وتحولت الزيادة من رفع الدعم الي ضريبة علي المحروقات.
رغم ان التوجه العام بعدم اللجوء الي طباعة النقود سليم ونجح الي حد ما في ابطاء تدهور العملة المحلية الا ان هذا كان على حساب حركة السوق والنمو الاقتصادي.
في الواقع يعتبر الحفاظ على قيمة العملة ذا اهمية كبيرة لاستمرار النمو الاقتصادي ولكن ذلك لا يتم إلا من خلال أمرين أولهما زيادة الايرادات وهو ما سعت اليه الحكومة الانقلابية في الفترة الاخيرة اما الاخر والذي لا يقل عنه اهمية فهو تقليل الصرف الحكومي وهو ما لم يتم حتي الان، فالداخل الي اي مؤسسة حكومية يري جيوش من العاملين الذين يمكن الاستغناء عن معظمهم دون ان يتأثر العمل في تلك المؤسسة.
ان استمرار الوضع الحالي المتمثل في اصرار الحكومة الانقلابية لتغطية نفقاتها الكبيرة من خلال الضرائب دون وجود مساعي جادة لتقليل الصرف الحكومي ستؤدي الي تفاقم الركود الاقتصادي وغلاء المعيشة وتعطيل التنمية، وكل هذا سيفاقم من عدم الاستقرار السياسي القائم حاليا، لذلك لابد من السعي لتقليل الصرف الحكومي بنفس الحماس الذي تزيد به الايرادات الحكومية، وذلك من خلال تقليص جهاز الخدمة المدنية لأقصي حد ممكن، واعادة هيكلة الاجهزة العسكرية ودمجها و تقليل الصرف عليها.
مستقبلا لابد من خصخصة ما تبقي لدي الدولة من شركات خدمية مثل المياه والكهرباء. كما يجب تخصيص ميزانية معروفة للصرف علي التنمية، ودعم صغار المنتجين من خلال تقليص الضرائب المفروضة عليهم وكل هذا لا يمكن ان يتم الا في ظروف يتحقق فيها الاستقرار السياسي.–