مقالات

انتفاضة 1985 هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة السابعة – أعداء نميري الثلاث

بقلم / بابكر عثمان

خلال السنوات التي أعقبت القضاء على حركة الشيوعيين في عام 1971 و قمع حراك الاخوان المسلمين في 1973 و احباط حركة المرتزقة عام 1976، تشكل عدو جديد لنظام الرئيس نميري وهو حراك النقابات العمالية والمهنية، ويمكن القول إن هذا الحراك المناوئ كان يتغذى من التدهور المضطرد للاقتصاد السوداني مصحوبا بتدهور معيشة الفئات التي تعتمد على الوظائف الحكومية أكثر مما هو حراك ذا دوافع سياسية.

بداية المتاعب النقابية

منذ أول اضراب نفذه عمال مناشير الأخشاب عام 1908 بسبب ضعف الرواتب التي تدفعها الحكومة الاستعمارية، ظل العمال والموظفون الى اليوم تحركهم مطالبهم الفئوية والمعيشية أكثر مما تحركهم دوافع سياسية او عامة، ورغم أن مجالس إدارات النقابات ترتبط بشكل أو آخر بواجهات حزبية حيث يتنافس الشيوعيون والاخوان المسلمون وأنصار الامام المهدي على السيطرة عليها ولكن يظل الهاجس الأكبر لهذه الكيانات الفئوية هي خدمة أعضاءها

بدأت أول متاعب نميري الحقيقية مع النقابات عام 1976 عندما اضربت نقابة معلمي المدارس الأولية وكان عددهم يتجاوز ٥٠ الف معلم وحسب رصد وضعه مؤرخ سياسي فإن معارضة نميري شملت أيضا رباب البيوت واللائي تظاهرن في أحياء الخرطوم والخرطوم بحري وامدرمان عام 1976 ، ويرصد الأستاذ محمد علي خوجلي في مقالات متصلة حول ما اطلق عليها ( سقوط حكم الفرد القمعي ) ونشرها عام 2014 ( هناك الاضرابات (الطويلة) والاضرابات (المفتوحة) ومن نماذج الاضرابات الطويلة اضراب معلمي المدارس الابتدائية (مدارس الأساس اليوم) والذي استمر لستة أسابيع 1976 أما الاضراب المفتوح فنموذجه اضرابات الفنيين ومنهم فنيي الأشعة. ) وقال إن مظاهرات ربات البيوت ومواكب ومظاهرات العمال في العاصمة المثلثة (الخرطوم – الخرطوم بحري – أم درمان) في يوليو 1979م (كانت مشهودة) مثلما قامت مظاهرات في كثير من المدن السودانية أشدها في حلفا الجديدة. وتحدث عن الاضراب العام لمزارعي الجزيرة والمناقل ومواكب 1979 والتي أطلق عليها منظموها (مواكب مناهضة الغلاء) وفي أغسطس 1979 كان اضراب عمال السكة الحديد امتداداً لإضرابات ومظاهرات يوليو والذي كانت شعاراته (تسقط حكومة الجوع) و(الاضراب سلاح العمال) وكان الاضراب حسب قوله (بسبب ضعف الأجور وغلاء أسعار السلع الضرورية التي طالب العمال بخفضها وتركيز أسعارها.)

ولا يخفى ان نظام مايو حاول جاهدا كسر شوكة النقابات من خلال اصدار قانون للنقابات عام 1977 سلب من خلاله كثير من صلاحيات النقابات في تنظيم الإضرابات، كما حاول دون جدوى ربط النقابات العمالية والمهنية بالاتحاد الاشتراكي (الحزب الحاكم والوحيد في الساحة) ولكن ورغم ذلك ( وتحت ضغط القواعد العمالية ومجالس الإدارات اضطرت قيادة الاتحاد العام لنقابات عمال السودان (المايوية) إعلان الاضراب العام في أكتوبر 1979 بسبب ضعف المرتبات والأجور وسوء الأحوال المعيشية.، حسب السيد خوجلي.

ومازال الناس الذين عاصروا تلك الفترة يتذكرون كيف أدى اضراب عمال السكة حديد في عطبرة في سبتمبر واكتوبر 1980 الى تحدي الرئيس نميري لهم من خلال إنشاء ما اطلق عليها (الكتيبة الاستراتيجية) حيث تم تدريب جنود من القوات المسلحة على قيادة القطارات للحلول محل سائقي القطارات المضربين عن العمل.

ومع مطلع الثمانينات تغيرت أساليب النقابات في مواجهة حكم الرئيس نميري حيث ابتكروا وسيلة جديدة هي تقديم الاستقالات وأيضا التوقف عن العمل طويل الأجل، فجاءت استقالات القضاة في فبراير 1981 وأيضاً في يونيو 1983م، ثم اضرابات المهندسين والأطباء في نوفمبر 1983 وكذلك في مارس/ أبريل 1984 والذي استمر لثلاثة أسابيع. كما أضرب القضاء في يناير 1984 لثلاثة شهور، يقول الدكتور الجزولي دفع الله الذي كان رئيسا لنقابة الأطباء خلال أعوام ١٩٨٣-١٩٨٥ إن الرئيس نميري هددهم بالشنق ان لم يعودوا الى العمل خلال 72 ساعة في أوائل عام 1984 وكانت نقابة الأطباء أعلنت في يناير من ذلك العام استقالة جميع أعضائها وتوقف جميع الأطباء عن العمل بما فيهم أطباء الطواري بسبب ضعف الأجور وتردي بيئة العمل ، ورغم ذلك لم يتراجع الأطباء عن استقالاتهم فأمر نميري بحل النقابة واعتقال مجلس ادارتها ولكنه تراجع لاحقا واجتمع بهم بعد مفاوضات شاقة قادها نائبه عمر محمد الطيب، ووافق نميري على التراجع عن قرار حل النقابة واستجاب لبعض مطالبهم. ومع ذلك يعتقد كثيرا ممن ارخوا لتلك الفترة ان رئيس النقابة الجزولي دفع الله وهو اخ مسلم سابق من أيام جامعة الخرطوم في بداية الستينات – كان مؤيدا لسياسات نميري فيما يتصل بإعلان قوانين سبتمبر (الحدود الشرعية) كما كان مؤيدا لإعدام محمود محمد طه وغادر اجتماع للتجمع النقابي استضافه اتحاد طلاب جامعة الخرطوم عشية اعدام الشيخ المسن محمود م طه في يناير 1985لادانة عزم النظام تنفيذ حد الردة على ذلك الرجل، وفيما بعد قاد الجزولي دفع الله التجمع النقابي والذي يضم عددا من النقابات المهنية (الأطباء – المهندسين – الصيارفة – أساتذة جامعة الخرطوم وغيرها)

حكومة الموظفين

يجدر القول هنا ان السودان بعد استقلاله عام 1955 أسس حكومات الموظفين، فكان معظم السياسيين هم في الغالب موظفون سابقون لدى حكومة السودان الاستعمارية، وكان عدد هؤلاء الموظفين عشية الاستقلال نحو 2000 موظف فقط ، ارتفع تدريجيا ليصل في عام 1985 أي بعد الاستقلال بثلاثين عاما الى نحو 300 الف موظف، يكافح الشعب لتغطية رواتبهم ( الفصل الأول من الميزانية ) و يقال إن جزءا من القروض التي استجلابها نظام نميري في خلال العشر السنوات الأخيرة من عمره كانت بهدف تغطية ( الفصل الأول ) ومع ذلك لم يتمكن مطلقا من إرضاء هذا الجيش الجرار من الموظفين.
اذن عندما اطل عام 1985 برأسه كانت نقابات الموظفين والعمال تغلي من الغضب بسبب الأحوال المعيشية المتردية وكان الجنيه السوداني قد فقد خلال الثلاثة شهور الأولى من ذلك العام نحو 38٪ من قيمته وارتفعت أسعار السلع على نحو جنوني إضافة الى ندرة السلع الأساسية مثل السكر والدقيق والوقود

ويمكن القول بناء على ذلك ان حكم الرئيس نميري فقد سنده الشعبي المرتبط بالقوى العاملة من عمال وموظفين تماما، في الحلقة القادمة سنلقي الضؤ على أحوال الأحزاب السودانية الفاعلة في مطلع الثمانينات وكيف كان يفكر قادة مثل الإمام الصادق المهدي و د. حسن الترابي والسيد الشريف حسين الهندي ومولانا محمد عثمان الميرغني

تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى