انتفاضة ابريل 1985 هكذا بدأت.. وهكذا انتصرت

الحلقة الثالثة – الخطاب الذي اشعل الشرارة
بابكر عثمان
هيمن على خطاب الرئيس نميري أمام اجتماعات اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي في الدورة الثانية والتي انعقدت بمجلس الشعب بامدرمان في تاريخ السبت 23 مارس 85 روح لم يألفها الشعب من قبل، فقد تحدث الرئيس باسلوب فيه الكثير من التشفي والاستعلاء وبدأ خطابه كالعادة بالحديث عن الاخوان المسلمين وقال ( لن اسمح بان تكون المعاهد والجامعات منابر للعمل السياسي المعادي لاجماع الشعب ولا تعدد للمنابر ولا راية فوق راية الاتحاد الاشتراكي في اي مكان بالسودان) واضاف ان الجامعات والمعاهد ( لن تكون حصونا لاعداء الثورة والمتربصين بها ) ووعد بفتح ابواب الاتحاد الاشتراكي لكل الافراد لممارسة حرية التعبير ( شريطة الامتثال لرأي الاغلبية مع احترام رأي الأقلية) واشار في خطابه الذي استغرقت اذاعته اكثر من ساعة ان ( الثورة – يقصد بها نظام الخامس والعشرين من مايو ١٩٦٩ – سمحت بغير حساسية بوجود المنابر في الجامعات رغم استخدامها في اغراض خارجية ومنافع ذاتية ) وان (الثورة تجاوزت عن الممارسات الخاطئة في اوساط الجامعات بالحلم والصبر ) ولكنه قال ( إن الاخوان المسلمين استعملوا الارهاب والتعسف والعدوان في جامعة الخرطوم ) وزعم أن السيخ الذي تسلحوا به تم شراؤه بمبلغ 30 الف جنيه بتمويل من بنك ( احتوى الاخوان المسلمين – يقصد به بنك فيصل الإسلامي – واحتموا به باعتباره الحصن الاقتصادي القادر على حمايتهم في ساعة الصدام.)
واستمر الخطاب على هذا النهج ليتحدث عن ثورة مايو التي (حسبها البعض قد تهاوت وانهارت ) ولكنها حسب زعمه ( مازالت قوية ببنيها وبمبادئها)
وفي خطوة اعتبرت تراجعا عن الشريعة الاسلامية طلب نميري من نائبه للشئون السياسية والقانونية الرشيد الطاهر بكر – مؤسس سابق لجماعة الأخوان المسلمين – مراجعة التشريعات الاسلامية والأحكام التي صدرت منذ أن بدأ العمل بها، وشن نميري هجوما على قضاة المحاكم وإتهمهم بالعمل لصالح ما اطلق عليها “الفئة التي ارادت تشويه الاسلام”.
وفي معرض حديثه عن دور الشباب خرج نميري عن الخطاب الرسمي المكتوب وارتجل حديثا باللغة الدارجة انقله بنصه فيما يلي حيث قال ” يؤسفني أنني قرأت في صفحة الرياضة ان السلطات مازالت تبني مساجد في الساحات الشعبية بمدينة ام درمان وهنا أحب ان أوجه بصفتي رئيسا للجمهورية اوجه ألا يتم شغل هذه الساحات والا يقوم فيها اي بناء مهما كان ووقف اي بناء قام بعد ذلك التوجيه ويمحي من الساحة حتى يجد الشباب اماكن لممارسة الرياضة المختلفة وسوف اقوم بتفتيش هذه الساحات بنفسي ان شاء الله، وانا اقول للذين اعطوا تصريحات البناء ان يسارعوا بازالتها وارجو من الشباب ان يبلغوا فورا عن كل من بنى قاعدة او شغل ساحة من الساحات المختلفة” وتلا بعد ذلك الرئيس حديثا للرصول (ص) يقول فيه ” علموا اولادكم الرماية وركوب الخيل”
واستمر في حديثه الخارج عن اللياقة والخارج عن النص الرسمي ليقول ” طبعا نحن ماعندنا خيل” اهو عندنا الكورة الماقادرين نغلب فيها دي “وواصل حديثه ” تجد اماكن في الثورة “امدرمان” مخططة ساحات وتجد الناس ببنوها، ويقولوا دي روضة ودي جمعية تعاونية، ودي مدرسة ودا جامع، خلاص انتهينا من دا، لو الناس عاوزين يبنوا جامع يطلعوا من بيوتهم ويبنوا فيها الجامع، الروضة برضوا كده – يعني دي هي الاماكن اللي يبنوا فيها !!!، يعني انا متحيز جدا جدا للشباب”.
اندلاع اول مظاهرة
لم يكن حديث الرئيس نميري امام اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي خارجا عن اللياقة فقط انما تضمن استفزازا للمواطنين “المسلمين” عندما طلب اليهم التبرع بمنازلهم اذا ارادوا بناء مسجد ، بحسبان ان الساحات يجب ان تخصص للالعاب الرياضية.
وفي الجانب الاخر تضمن الخطاب منعا صريحا للانشطة السياسية للطلاب في الجامعات والمعاهد، وقصر النشاط على الطلبة المنضوين تحت لواء الاتحاد الاشتراكي الذين لاوجود لهم بالفعل.
كان هذا الخطاب ولهجته شديدة الاستفزاز مثيرا للطلاب، فعقد اتحاد طلاب جامعة ام درمان الاسلامية الذي يسيطر عليه تنظيم “التضامن الاسلامي”وهو تحالف يضم الآنصار والاتحاديين والمستقلين، اجتماعا في داره استعرض فيه الموقف وقر الرأي على تنظيم مظاهرة تستنكر تصريحات الرئيس نميري وترفع مذكرة بهذا الصدد لرئيس مجلس الشعب “البرلمان” ويقع مبنى البرلمان في مدينة ام درمان نفسها، وثبت فيما بعد أن قادة الاتحاد اجتمعوا بالسيد الصادق المهدي وعمر نورالدائم وتشاوروا معهما حول الامر واخذوا موافقة على تصعيد الموقف.
كان هذا في مساء الأحد 24 مارس وفي صبيحة الاثنين 25 مارس عقد الاتحاد اجتماعا موسعا بالطلاب في فناء الجامعة بحي العرضة بامدرمان وابلغهم رئيس الاتحاد محمد احمد سلامة رغبة الاتحاد في تسيير مظاهرة الى مبنى البرلمان استنكارا لتصريحات النميري.
وفي الوقت الذي يردد فيه الطلاب هتافات معادية للثورة وللرئيس نميري اثناء ذلك الاجتماع الذي تقرر فيه تسيير مظاهرة غدا الثلاثاء الساعة الثامنة صباحا، كان الرئيس نميري يلقي كلمة اخرى ردا على مداولات اعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي اشد وطاة على نفوس المواطنين من اي كلمة القاها خلال ستة عشر عاما مدة حكمه للسودان، تحدث ردا على ملاحظات بعض الاعضاء عن الغلاء والتدهور الاقتصادي فاشار الى جملة ملاحظات تتلخص في الآتي:-
• الشعب السوداني مبذر وليست لدى افراده خطط لترشيد المنصرفات.
• الكبرياء السوداني يقف دائما دون تنظيم دخل الفرد ويدفع به الى عادات استهلاكية تستنزفه.
وتحدث عن ايجارات المنازل وعن القضايا المرفوعة امام المحاكم بسبب جشع اصحاب المنازل ورغبتهم في اخراج ساكنيها لمجرد زيادة قيمة الايجار، كما تحدث عن اولئك الذين يملكون اكثر من سيارة في المنزل ويستهلكون بين 12- 16 جالون بنزين في اليوم وقال من اين نأتيهم بهذه الطاقة وقال إن 70% الى 80% من دخل الاسر يصرف على عادات استهلاكية لا نفع منها، وأضاف أن 80% من الصناعات السودانية متوقفة لان الناس لاتشتري منتجاتها وتفضل المستورد لمجرد انه مستورد، ابدى ملاحظات حول اكتظاظ الشوارع بالعربات في اماكن ليالي الفرح مشيرا الى ان ذلك يعد استهلاكا للطاقة وعبئا على الدولة.
كانت هذه التصريحات وباللهجة التي قيلت بها بمثابة كارثة، خصوصا انها مذاعة على الهواء مباشرة، واخذ بعض اعضاء الحكومة على الاستاذ علي شمو وزير الاعلام وقتها انه اعاد اذاعتها اكثر من مرة ، غير أن الاستاذ شمو دافع عن موقفه بقوله إنها كانت رغبة الرئيس نفسه عندما استاذنه في ذلك.
تظاهرة ضخمة في ام درمان
تجمع الطلاب في فناء جامعة ام درمان الاسلامية في صبيحة الثلاثاء 26 مارس 1985م ليستمعوا الى خطاب من رئيس الاتحاد وليشاركوا في اول مظاهرة طلابية منذ اكثر من ثلاث سنوات حيث خرجت اخر مظاهرات طلابية في يناير عام 1982م بسبب زيادات في اسعار السكر ولكنها قمعت في حينها.
رئيس الاتحاد الطالب محمد احمد سلامة ارتجل خطابا اشار فيه الى أن الرئيس نميري خرج عن طوره وأن الجامعات السودانية ستظل منارة للعلم ولتعدد الآراء وأن خطابه مرفوض واضاف أن النظام فقد وجهه القومي والاسلامي عندما شارك في عملية ترحيل اليهود الفلاشا الى اسرائيل.
كانت عملية ترحيل الفلاشا الى إسرائيل قد طرقت مسامع الرأي العام بقوة في تلك الايام حيث سرب صحفي امريكي زار مطار العزازة بالقرب من مدينة القضارف بشرق السودان الخبر الى صحيفة لوس انجلوس تايمز وتناقلته الاذاعات والصحافة العالمية.
مقتضى الامر ان رئيس الاتحاد حث الطلبة على المشاركة في المظاهرة وكانت الشعارات التي تندد بالنظام مكتوبة على قطع اقمشة بيضاء ومثبتة على اعواد من الخشب وخرجت المظاهرة من الجامعة وتضم ما لايقل عن الف طالب يحملون لافتات ويرددون شعارات تندد بالنظام ولكن هذه المظاهرة خرجت دون مشاركة طلبة الاتجاه الاسلامي والسبب أن الاسلاميين ارادوا التريث قليلا عقب اعتقال الزعامات الاسلامية خشية تهور النظام ورغم ذلك فان البيان الذي اصدرته لجنة الامن القومي بعد ذلك ادعى ان المظاهرة دبرها الاخوان المسلمون امتدادا لتآمرهم على الثورة.
اتخذت المظاهرة طريقها نحو شارع الموردة مخترقة سوق ام درمان في اتجاه مجلس الشعب ووقف المواطنون ينظرون الى الطلبة وهم يهتفون ضد النظام باستغراب، وفي سوق ام درمان انضم للمظاهرة اكثر فئات الشعب قهرا وحرمانا وهم الشباب الذين جاءوا من غرب السودان هربا من المجاعة والحرب
التحم أولئك الشباب بالطلبة وانحرفوا بالمظاهرة الى شارع الاربعين في اتجاه السوق الشعبي حيث تقع جمعية ود نميري التي يملكها مصطفى نميري شقيق الرئيس والتي كانت مثالا صارخا للمحسوبية والفساد وبالفعل احرقوا مباني الجمعية وعاثوا في السوق فسادا، اما الطلبة فانهم تفرقوا قبل ان يصلوا الى هدفهم الرئيسي وهو مجلس الشعب بسبب تدخل رجال الشرطة وتفريقهم.
وتعتبر هذه المظاهرة هي الشرارة التي احرقت النظام بعد عشرة ايام فقط.
الحلقة القادمة
نميري في الحزام الأخضر تلفت نظره لهجة صحافية جديدة وطلاب الإسلامية يتهيئون للخروج في مظاهرة
تابعوني