انتفاضة ١٩٨٥م هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة الرابعة – نميري في الحزام الأخضر وطلاب الاسلامية في الشارع
بقلم/بابكر عثمان
ذهب نميري برفقة عدد من مساعديه الى منطقة الحزام الأخضر جنوب الصحافة في صبيحة السادس والعشرين من مارس ١٩٨٥ لزراعة شجرة فيما اطلق عليه ( مشروع المليون شجرة ) لحماية العاصمة من التصحر، وكان بين الصحافيين الذين غطوا هذه المناسبة صحافية سودانية مصرية انضمت لصحيفة الصحافة قبل فترة وجيزة ، اقتربت الصحافية وأسمها عفاف محجوب من الرئيس نميري وطرحت عليه سؤالا بلهجتها المصرية المميزة ، فاستغرب نميري من لهجتها واستفسر عنها ، فقيل له انها من الجالية السودانية في مصر وقد قدمت حديثا الى السودان فطلب من أحد مساعديه ان يهتم بها .
في ذلك الوقت بدأ طلاب جامعة ام درمان الإسلامية يتجمعون امام كليات الآداب في حي العرضة بأمدرمان ويتهيؤون الى الخروج في أول مظاهرة حاشدة مناوئة للنظام خلال ثلاث سنوات.
كنت واحدا من أولئك الطلاب عندما اقترب مني أحد أعضاء الاتجاه الإسلامي في الجامعة (كنت عضوا في الاتجاه الإسلامي) و ابلغني ان التنظيم قرر عدم المشاركة في هذه المظاهرة (أنت تعرف ان الجماعة في السجن) ولكنني تجاهلت طلبه وخرجت في المظاهرة أحمل مع زميل لي لافتة تندد بسياسات نميري، كنت في ذلك الوقت أقول ان نظام نميري فقد أي مبرر أخلاقي لاستمراره في الحكم.
انطلقت المظاهرة والتي قادها رئيس الاتحاد محمد احمد سلامة في طريقها الى مجلس الشعب القومي مخترقة سوق امدرمان، كان الناس ينظرون الينا باستغراب، فسطوة النظام وسطوة نميري شخصيا لم يكن لأحد أن يجرؤ على تحديها خلال سنواته الأخيرة.
في سوق امدرمان انضم عدة مئات ممن يطلق عليه الشماسة الى المظاهرة وعندما تجاوز الحشد البلدية في شارع الموردة كان أغلبية المتظاهرين هم من الشماسة، التفت الى يميني فوجدت أحد الشماسة يمسك معي باللافتة، فطلبت من أحد الشماسة بجانبي ان يستلم اللافتة وخرجت من المظاهرة الي داخل حي العرضة، فقد بدأت قوات الشرطة تتحرش بالمتظاهرين.
انحرف الشماسة بالمظاهرة الى شارع الأربعين ومنها الى السوق الشعبي ام درمان حيث احرقوا جمعية ود نميري التعاونية وهي شركة يملكها مصطفى نميري الشقيق الأكبر للرئيس نميري، بينما تمكن رئيس الاتحاد سلامة وعدد من زملائه من الوصول الى مجلس الشعب وتسليم مذكرة الاحتجاج على تصريحات نميري بوقف النشاط الطلابي في الجامعات لاحد كبار الموظفين هناك.
كانت ظاهرة الشماسة قد بدأت في الظهور خلال السنوات الأولى من عقد الثمانينيات ، فالجفاف والتصحر بدأ يضرب القرن الافريقي منذ منتصف السبعينات وانخفض معدل هطول الامطار في إقليمي دارفور وكردفان منذ عام 1977 ، وعندما اطل عقد الثمانينات بدأ أبناء غرب السودان في النزوح الى العاصمة الخرطوم في شكل هجرات جماعية ، ففي عام 1984 وحده نزح من هذه الأقاليم حسب الإحصاءات الى الخرطوم نحو 620 الف نازح استوطنوا اطراف مدينة امدرمان ، بينما أدى اندلاع الحرب في الجنوب عام 1983 الى نزوح جماعي للجنوبيين صوب العاصمة ويعتقد ان نحو 200 الف جنوبي جاءوا الى الخرطوم في عام 1984 واستوطنوا في سكن عشوائي في الخرطوم بحري وام درمان
لم يكن الضغط السكاني على العاصمة الخرطوم مصدره النازحين من أقاليم دارفور وكردفان وجنوب السودان فقط ولكن الشماليين في الإقليم الشمالي وشرق السودان بدأوا أيضا هجرات متتالية الى العاصمة وأسسوا أيضا مناطق سكن عشوائية في الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري، كما ان مئات الالاف من ابناءهم هاجروا الى الخليج ويبدوا ان ذلك أسهم الى حد ما في حفظ أبناء الشمالية من ان يصبحوا شماسة.
ضربت المجاعة ونقص الغذاء مناطق واسعة من السودان، خصوصا في غرب السودان حيث الجفاف والتصحر وشرق السودان حيث فر من حروب القرن الافريقي نحو مليون لاجئ.
عندما انطلقت الانتفاضة في ٢٦ مارس ١٩٨٥ كان سكان العاصمة الخرطوم قد بلغ نحو ٥ مليون شخص، ربع عدد السكان من النازحين من غرب وجنوب السودان ، فقبل ١٠ سنوات من ذلك التاريخ لم يكن عدد سكان الخرطوم يتجاوز ٢ مليون شخص .
في الحلقة القادمة نلقي مزيدا من الأضواء على شخصية نميري وهل كان بالفعل مريضا عندما ذهب الى الولايات المتحدة في رحلته تلك والتي لم يعد منها
تابعوني