حيا الله مستودع الثقافة مصرا

بقلم/ قريب الله حاج علي
الشعر صورة من صور الحياة يعبر فيها الشاعر عن أفكاره وعواطفه وفق المتغيرات الزمانية والظروف الاجتماعية والبيئية ، ويرسم ذلك في صورة تسمي قصيدة،وما اجمل مانقش ورسم وكتب في رحلة شعراء السودان ،تجسيدا للعلاقة النيلية الجميلة والازلية التي ربطت بين مصر والسودان وتلخصت في قصائد هي كنوز في نظري ونظر الكثيرين .وهذه الابيات جمعتها من هنا وهناك لانني محبا لمن كتبوا هذه القصائد الخالدة حبا وعشقا سودانيا خاصا تجاه مصر الكنانة .
إن الحديث عن الدور الثقافي والمعرفي لمصر في الأدب السوداني وهو دور لاينكره الا جاحد
ومبارك المغربي الشاعر السوداني كتب بكل وفاء تلك الابيات التي يقول فيها .
ياموطن العلم الذي بعطفه لم يبخل
لولاك لم ترق النهي
متن السماك الاعزل
ويؤكد الشاعر التجاني يوسف بشير الدور نفسه فيقول .
كلما انكروا ثقافة مصر كنت من صنعها يراعا وفكرة
والحق ان مصر لا تقدم المعرفة فحسب بل تأخد بيد طلاب العلم والنابهين نحو افق ارحب
وهذا ما يؤكده ادريس جماع في قوله
غمرتني بنبلها وحبت شعري
مالم يكن يؤمل مثلي
ويبدو ان شاعرنا الهادي ادم كان عارفا بادق تفاصيل مصر علما وفنا وتاريخا فهو يستدعي اكثر حوادثها آسي ولوعة وهي حادثة دنشواي الشهيرة والتي قتل فيها عدد كبير من المصريين
ما دهي دنشواي بالامس لما
روعت بالخطوب قتلا وسجنا
يوم سيقت الي المشانق تدءا
فاستحال النهار إذ ذاك دجنا
إذ مسحت الدموع عن مل ثكلي
فقدت يافعا وشيخا مسنا
ويختتم قصيدته ان مصر صارت حرة وغدت كعبة للمجد وركنه الشديد
وهو يردد
اتري مصر كيف تنتزع المجد
وتبني في كعبه للمجد ركنا
كنت بالأمس مصطفاها وانت اليوم
اهرامها فنم مطمئنا
(في اشارة للزعيم مصطفي كامل الذي خلده في قصيدة طويلة )
مصر شوقا وحنينا .
لاشك ان الجيل الاول من السودانيين الذين تلقوا تعليمهم بمصر وعادوا الي بلادهم والمصريين الذين توافدوا علي السودان لتعليم ابنائه قد جعل اؤلئك صورة مصر ترتبط في الوعي الجمعي السوداني بالعلم والمعرفة وما اكثرهم الذين تباروا في السفر لمصر واللحاق بحامعاتها ومدراسها لاسيما كلية دار العلوم والازهر الشريف والاسماء لاحصر لها وعلي راسهم شاعرنا الهادي ادم ومحمد عبد الوهاب القاضي وادريس جماع والعباسي ومحمد محمد علي والقاضي وفي الجانب الاخر نجد اخرين يتطلعون لزيارة مصر ياملون ان يروها جهرة ومن ابرز هؤلاء التجاني يوسف بشير الذي ألهبت صورة مصر خياله وملكت قلبه ولكن ظروف حياته وضيق ذات اليد حرمته الوصل واللقيا ،يقول وقد هده الشوق وهو يناجي
املي في الزمان مصر فحيا الله
مستودع الثقافة مصرا
نضر الله وجهها فهي ماتزداد
الا بعدا علي وعسرا
ويصرخ التجاني في اول قصائده عن حبيبته مصر بموت امله في رؤيتها وزيارتها .
ويكرر التجاني تعلقه بها في قصيدة اخري وهو ينشد
وما مصر لولا عوادي الحياة
بمجدبة من دعاة الكرم
ولما اعتزمت لمصر الذهاب
وآن لرايك ان ينخرم
جنحت الي مزهري فانتزعت
ملاحن فيها الهوي من الالم
شددت بكفيك اوتارها
وأودعت فيها شجي النغم
ونقف عند ميمية الشاعر محمد عبد الوهاب القاضي ومن يطالع هذه الابيات يحس بمزيج بديع مابين الشوق والحنين والألم والاخفاق والحلم والرؤيا والخوف والرجاء ،يقول القاضي
مه ياشقي إلام تستبكي وكم
تهفو لمصر ومصر دونك من أمم
وعلاما تزرف ادمعا مهراقة
وتنوح من وجد ومن فرط الألم
وتذيب قلبك انت وجدا كلما
ذكروا ابا الهول المخلد والهرم
هذا هو المقدار فارض بحكمه
والله عدل كيفما فيك احتكم
واستمهل الايام وهي عجولة
واشك الزمان فانه اعمي اصم
واندب حظوظك وهي سكري بالكري
ماتستفيق من المقام وتستجم
وادع الحياة يجبك رجع الصدي
صوت أبح فما يبين له الكلم
واعرف اخيرا ان سهمك طائش
بين الحياة وان سيفك منثلم
وتعلق القاضي بمصر صرفه عن سماع النصح ،لذلك وهو يصر علي رايه بدليل انه يظل يبني والدهر يهدم ،وبعد محاولات تخور همته ويضعف عزمه ،ويحطم قلبه ،ويوأد حلمه ،يذعن لما هو مقسوم له بين الوري ،ويتاكد من صدق ناصحه :
لكن رضيت بقسمتي بين الوري
وعلام اركب جانبي واقتحم
في زحمة الدنيا وفي ضوضائها
ودعت امالي بقلب منحطم
واذا تخطينا ميمية القاضي التي خيم عليها الاخفاق والفشل نجد صورة اخري عند جماع
صورة مصر الحلم الجميل الذي اعاره جناحا ليراها جهرة .
أألقاك في سحرك الساحر
مني طالما عشن في خاطري
أحقا اراك فاروي الشعور
واسبح في نشوة الساكر
وتخضل نفسي بمثل الندي
تحدر من فجرك الناضر
تخايلني صور من سناك
فأمرح في خفة الطائر
تخايلني خطرة خطرة
فماهي بالحلم العابر
ويحملني زورق الذكريات ّإلي شاطئ بالروي عامر
وهي ابيات تكتظ بفيض من الاماني والامنيات ونلاحظ ان صورة مصر عند ادريس جماع مرتبطة في الغالب مرتبطة بالنجاح والامل والسعادة .
أملي وهبت لي الحياة
وكنت في سجن من الألم
اطبق جناحك فقد بلغت فهذه أرض الهرم
حلقت بي متهاديا
وبدت رؤي هذا الحرم
وكما نلاحظ ان مصر ليست امله الوحيد بل منحته عزما وصبرا ليواجه الحياة ويتمسك بتلابيبها
ونقف في حضرة وحنينه ايام شبابه في مصر وهو الحنين لاجمل ايام العمر
أه لو كان لي بساط من الريح
أوافيه او قوادم نسر
فاطيرن نحو مصر اشتياقا
إنها للاديب احسن مصر
هل الي مصر رجعة وبنا شرخ
شباب غض وزهرة عمر
الي ان يقول :
فيك يامصر لذتي وسروري
وقت الشباب ووكري
وكرام صحبت فيك كماء المزن
اوروا زندي وشادوا بذكري
والعباسي اشتهر بحنينه كما ذكر محمد فريد ابوحديد ( إذ يذكر مصر لا يفتأ يحن اليها حنين الكريم إلي وطنه الحبيب .والعباسي وهو مثل خيار الكرام في شطر الوادي يري ان حياة مصر والسودان انما حياة واحدة لاتتحقق لاحد الشقين الا بتحققها للشق الاخر
وهو القائل:
رب قدر لمصر طالع إسعادي
وهئ لمصر إصلاح أمر
أنت قدرت والمواهب شتي
لهلال الدجنة المستتر
غاب حينا فعاد غير ذميم
واكتسي في تخطاره ثوب بدر
ويختتم فصيدته بالدعاء لمصر بصلاح امرها وسعود حظها ،ويقول إنها مثل هلال استحال بدرا فأنار الاكوان بعد ماخبا عنهم زمانا .
وتبقي مصر هي الحب والعشق ولاشك ان حب السودانيين لمصر كبير ،وهو حب غذاه النيل ماء والدين قيما والعربية نسبا ولسانا وبذلك يعسر علي المرجف أو الباغي ان يفرق جمعا وحده الدين واللغة والنيل ،كما ردد شاعرنا محمد محمد علي
فيا مصر انت الحبيب المفدي
ويا مصر انت الهوي المصطخب
كفاحك نبع المني في فؤادي
إذا غاب نبع المني او نضب
ومن راحتيك شربت الضياء
ومن وجنتيك جنيت الأدب
ويتنافسون في عشق مصر فياتي التجاني بابياته
حبذا الموت في سبيلك يا مصر
لنشء عن الحمي دفاع
ويقرن عبد الله الطيب بين حب مصر وحب النيل فيقول :
احب مصرا لحب النيل مغتربا
بها ولي منه كاسات وندمان
ومبارك المغربي رشف رشفة من مصر ويتعجب من نفسه ومماهو فيه فلا هو قادر علي الارتواء ولافي استطاعته الفكاك وهو يقول :
أيصبح مفتونا اسير صبابة
رمته فلم ترحمه الا بمقدار
لقد كنت ارجو ان اعود اليهم
بقلب علي صرف المقادير صبار
ولكن سقتني الحب حوراء لم ترد
سوي المي فيما اخال وإضراري
ومالي سوي الاذعان هل يملك امرؤ
اذا وقع المحذور تصريف اقدار
ونقف في حضرة المدرسة التقليدية والطيب السراج لايتورع في جعل حب مصر دينا واعتقادا بل فريضة وهو يردد :
إني اري حبي لمصر ديانة
يدعو لها سبحانه وتعالي
إن الوري ليري عليه فريضة
حب الكنانة ماعدا الاندالا
ولا شك ان مثل هذا الشعر لاينفر القارئ الواعي بطبيعة الشعر منه فحسب ،بل قد يجعله يظن بقائله ظنا .ومثلما يمج القارئ صورة الطيب السراج ومبالغتها تجده يأنس بشعر الاتجاه الواقعي الذي يري الاشياء بحقيقتها فهذا تاج السر الحسن يعبر عن حبه لمصر ببساطة شديدة يعز نظيرها
ويردد :
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة
يا رياضا عذبة النبع وريقة
ياحقيقة
مصر يا ام جمال أم صابر
ملء روحي أنت يا أخت بلادي
سوف نجتث من الوادي الاعادي
ويعلن تاج السر الحسن حبه لمصر وعشقه لماضيها ولتاريخها وتمجيده لثورتها ( ام جمال وام صابر ) ولبسالة شعبها بهدوء شديد وبدون انفعال ودون ان يكلف نفسه عاطفة جوفاء او غلو مشاعر فجة ،فحبه هو حب الشقيق لشقيقه وحب الواثق بان الاخر يبادله نفس الاحساس .
الرائع حسن عباس صبحي كتب
النيل مازال يسير
ويحضن الاغاني في حبور
ويبعث الحياه
وعمنا يصيد ّبقلبه الكبير
يغازل السمك
ويطرح الشبك
وينشر ابتسامة
عريضة وثيرة
بوجهه الصبوح
ويشرب الدخان
وينشد الموال
بصوته الوقور
يمجد الابطال
بارض بورسعيد
وطفله الصغير
برقة العصفور
يدندن الالحان
كالشهد كالسكر
فيهتف الموال
بقلبه الوريف
انشودة جريحة
وهي قصيدة تتحدث عن بورسعيد واهلها الصامدين
وشاعرنا مختار محمد مختار كتب ايضا قصيدة طويلة. نرتشف منها هذه الابيات .
الا فاسلمي رغم النوائب يامصر
لك العز والمجد المؤثل والفخر
فصبرا فان الظلم ليل مجنح
سيسطع من اثناء ظلماته الفجر
ويعود لنا الهادي ادم للحديث عن بعض ايام الجفوة بين البلدين والتي لم تستمر طويلا ثم عادت علاقات الحب واواشج القربي والدم اكثر قوة
أمة النيل ويحها ومادهاها
هل تناست عهودها وإخاها
صلة الحب والقرابة ماذا
حل من عقدها فأوهي عراها
ذهل النيل يوم ذاك شعوبا ّوصخورا وربوة ومياها
جفوة قيل انها بين شعبين
معاذ الوفاء ان يبدياها
قد نشأنا وحب مصر غرام
قد تعدي صدورنا والشفاها
ونعود لمبارك المغربي من جديد وهو كانما يتضرع او يبتهل اخر الليل
ويقول :
يامصر يا أمل العروبة
يا سلاح الغزل
يا واحة الظمأن في
درب الحياة الممحل
يا موطن العلم الذي
بعطائه لم يبخل
يا مصر يا هبة السماء
وبهجة المتأمل
ونقف عند خلف الله بابكر وقصيدته النيل .
أيها الخالدون في مصر طابت
بكم مصر ساحلا وبحارا
مصر مصر الخلود والمجد تزهو
بكم عزة وتزهو افتخارا
والهادي ادم مازال يردد
ولمصر بأرضنا كم اياد
علم الله ماجهلنا مداها
وبنفس النهج يقول مبارك المغربي
كم من يد بيضاء قد
اسديت دون تفضل
ويقول عبد الله البنا
وندفع عن مصر الأذي بنفوسنا
بعزم قوي نافذات مضاربه
ومبارك المغربي يجاري علي الجارم في نونيته التي كتبها عام 1941
وكتب المغربي عام 1980
يا أخوة النيل يا اغلي امانينا
طبتم وطابت بكم امجاد وادينا
مجاريا علي الجارم الذي كتب
يانسمة رنحت اعطاف وادينا
قفي نحييك او عدي فحيينا
الدكتور عبد الله الطيب وقد رأي صخر مدينة اسوان في عام 1984 فانشد قائلا .
ياصخر اسوان ان القلب اسوان
وأنت من خمرة خرساء نشوان
تلوح فيك وجوها ما أبينها
مبهمات من الذكري وأشجان
كأن فرعون ذا الاوتاد ماكره
من الثنية ذات الريد هامان
وخلتني أبلغ الاسباب مرتقبا
وأن سرا من الاسرار عريان
والهادي ادم اختارت الراحلة كوكب الشرق ام كلثوم قصيدته اغدا القاك من بين عشرات القصائد التي قدمت لها ابان زيارتها للسودان عام 1967
ومن روائع الهادي ادم ايضا قصيدته في رثاء الزعيم جمال عبدالناصر
وهو يقول :
اكذا تفارقنا بغير وداع
ياقبلة الابصار والاسماع
ماد الوجود وزلزلت اركانه
لما نعاك الي العروبة ناع
ماذا عسي شعري وخطبك آخذ بالقلب
ماذا يخط يراعي
ياصاحب الوجه النبيل وحامل الخطب
الجليل وقمة الابداع
اجمال انك ان رحلت مفارقا
ودعاك للعلياء اكرم داع
يافخر هذا الشرق ياملاحه
وزعيم نهضته بغير نزاع
والقصيدة طويلة سننشرها لاحقا
🎻🎻🎻🎻🎻🎻
هذه هي مصر في قلوب السودانيين.. فيضان من مشاعر الحب والوجد والشوق والتقدير.
ونواصل قصاصات ( حبا في مصر )
Altahirgareeb73@gmail.com