مقالات

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت،،، وهكذا انتصرت

 

الحلقة الثانية عشر : نيران تحت الرماد في جنوب السودان 

بقلم / بابكر عثمان

كان التوصل لاتفاقية اديس ابابا 1972 والتي وضعت حدا للحرب الأهلية في الجنوب واحدة من أعظم إنجازات نظام مايو ، بل يعتبر التوصل لتلك الاتفاقية واحدة من ابداعات الرئيس جعفر نميري شخصيا، حيث وضع على رئاسة الوفد المفاوض القاضي الجنوبي المحترم ابيل الير ، ولكن بعد نحو 10 سنوات من السلام الهش في الجنوب ، انقض نميري على تلك الاتفاقية وبدأ في تمزيقها على نحو مثير للشفقة.
يسود اعتقاد واسع بين السودانيين الشماليين في ذلك الوقت ( 72-82 ) أن الحرب في جنوب السودان أصبحت من الماضي ، حيث تتجنب وسائل الاعلام او المسؤولين السياسيين والعسكريين الكشف عن النيران المشتعلة تحت الرماد في أوساط الجنوبيين الذين تفرق بينهم القبلية او المواقف السياسية أو الطموحات الشخصية ، ولكن في عام 1982 انفجرت تلك البراكين النائمة عندما نشب خلاف واسع وعريض بين المكونات القبلية في مجلس الشعب الإقليمي في جوبا ، وخصوصا بين زعماء قبائل الدينكا والنوير في أعالي النيل وكذلك بين الدينكا وقبائل الاستوائية في الإقليم الاستوائي ، والدينكا وقبائل الفرتيت في بحر الغزال ، فالجنوب الموحد بموجب اتفاقية اديس ابابا واقع تحت هيمنة قبيلة الدينكا الأكثر عددا والأكثر تنظيما والأعلى ثقافة ، فانطلقت في ذلك العام دعوات لتقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم و مديريات ، قاد هذه الحملة جوزيف لاقو ( زعيم الانانيا السابق) و يعارضه في توجهات التقسيم ابيل الير ( رئيس المجلس الأعلى للإقليم الجنوبي السابق ) ، ولكن هذا النزاع في البرلمان الجنوبي اسفر عن فوز مجموعة جوزيف لاقو بالأغلبية وتم تشكيل حكومة برئاسة جوزيف طمبرة ببرنامج رئيسي هو تقسيم الجنوب الى ثلاث إقليم لوأد الهيمنة الدينكاوية في جوبا
كان يمكن لهذا النزاع أن يظل مجرد خلافات سياسية داخل مجموعات السياسيين الجنوبيين لولا ان الرئيس نميري والذي يملك بموجب اتفاقية اديس ابابا صلاحيات كبيرة في توجيه السياسات العامة في الجنوب انحاز الي الفئة التي تنادي بتقسيم الجنوب الى ثلاثة أقاليم وإنشاء بعض المديريات الجديدة.
لم يكن انحياز نميري الذي خالف نصا صريحا في اتفاقية اديس ابابا يخلوا من الغرض، فضباط الاستخبارات العسكرية وكبار قادة الجيش كانوا يقفون مع فكرة التقسيم لإضعاف الجنوب وقتل أي توجهات انفصالية ، كان الجنوب في الشهور الأخيرة من عام ١٩٨٢ يغلي كالمرجل وأصاب القلق كبار قادة الجيش في القيادة العامة والذين نقلوا هذا الشعور الى مكتب الرئيس الذي طلب ان يستمع الى اللواء صديق البنا قائد الفرقة الأولى في جوبا والذي جاء مسرعا الى الخرطوم دون ان يخطر رئيس الحكومة ( جوزيف طمبرة ) وصل الخرطوم مساء ١١ نوفمبر وفي صباح اليوم التالي وفي الساعة العاشرة بالضبط كان اللواء البنا برفقة الفريق توفيق ابوكدوك ( رئيس هيئة الأركان ) في مكتب الرئيس نميري والذي بادر اللواء البنا بسؤال مباغت ومباشر ( ايه الحاصل في الجنوب ؟ )
قدم اللواء البنا تقريرا مفصلا فحواه ان الهدف الاستراتيجي البعيد لدعاة وحدة الجنوب هو (ذات الهدف القديم للقوى الانفصالية والمتمثل في الانفصال الكامل) وأضاف في كلمة تنويرية مكتوبة لرئيس الجمهورية في ذلك الصباح ( أن ذلك الانفصال لا يمكن تحقيقه إلا إذا بقي الجنوب موحدا)
كانت مثل هذه الآراء والتحليلات التي قدمها قادة الجيش الى الرئيس نميري هي التي بلورت الإتجاه القاضي بتقسيم الجنوب الى ثلاثة أقاليم بالمخالفة لاتفاقية أديس ابابا والادعاء بأن هذا القرار هو ثمرة توجه ومطالب الغالبية العظمى من قادة الإقليم الجنوبي أنفسهم.
ولكن هل كان الخوف من الانفصال هو الدافع الوحيد لدى القيادات الشمالية في الخرطوم لتقسيم الجنوب؟ !!
بالاطلاع علي الأحوال التي اكتنفت العلاقة بين الجنوب والشمال في الخمس سنوات الأخيرة من عمر نظام مايو نصل الى قناعة تامة أن بعض المحركات في تلك العلاقة هو اكتشاف النفط في مناطق بانتيو في أعالي النيل وهي مناطق متاخمة لإقليم كردفان، مما حد بالنظام الى ابتكار خطة لتشتيت المشاعر الجنوبية من ان النفط المكتشف لا ينتمي اليهم وحدهم , فتم الاعلان عن ضم مناطق من كردفان واعالي النيل وهي المناطق التي تحتوي على احتياطيات النفط المكتشف حديثا وتسميتها بإقليم الوحدة
ومن جانب آخر تصاعدت حدة التوترات في إقليم أعالي النيل والاستوائية مع الأنباء التي راجت حول خطط لتوطين نحو مليون مصري في منطقة جونقلي حيث بدأ العمل في مشروع قناة جونقلي وهو مشروع مشترك بين السودان ومصر لتوفير نحو 14 مليار متر مكعب من مياه مفقودة بفعل انتشار المستنقعات هناك وخرجت المظاهرات في عدة مناطق في الجنوب رفضا لهذا المشروع عام 1979 ولاحقا دمرت قوات قرنق الحفار التابع للشركة الفرنسية العاملة في تنفيذ المشروع.
تصاعدت حدة التوتر الى درجة خطيرة في النصف الأول من عام 1983 في جنوب السودان ، تغذيها شكوك عميقة حول قرارات وتوجهات معادية للأطراف الرافضة للتقسيم ، ومما يجدر ذكره هنا أن ابيل الير ( الأب الروحي لاتفاقية السلام في الجنوب ) كان يقف بحزم ضد أي توجهات أو خطط لتقسيم الجنوب ، ولم يكن يفعل ذلك وهو جالس في منزله انما بدأ يقود حملة كبيرة في أوساط الجنوبيين لتوحيدهم ضد التقسيم وفيما بعد أصدر كتابا شرح فيه كل ملابسات تلك الفترة بعنوان ( جنوب السودان – التمادي في نقض العهود والمواثيق ) اتهم فيه الطرف الشمالي بأنه لا يحافظ مطلقا على عهوده وتعهداته.
ولكن يمكن القول إن اللواء صديق البنا قائد الفرقة الأولى في جنوب السودان وهو بمثابة القائد العام لجميع وحدات الجيش السوداني في الجنوب والبالغ عددها 12000 جندي نصفهم من قوات الانانيا المستوعبة ادرك حينها وهو يبلغ الرئيس نميري بحقيقة الأوضاع العسكرية والأمنية كما قدرها في 12 نوفمبر 1982 أن الانفجار قادم لا محالة ، فبحسب ما ورد في مذكراته التي اسماها ( الجنوب – معضلة الأمن القومي السوداني ) فإن هناك ثلاث كتائب على الأقل من الفرقة الأولى وهي الكتيبة 117 في كبويتا شرق الاستوائية والكتيبة 110 في اويل ببحر الغزال و الكتيبة 105 والموزع سراياها في بور والبيبور وفشلا ورئاستها في اكوبو كل هذه الكتائب سيئة التدريب وتفتقر الى الانضباط العسكري وتتعدى على المال العام وترفض الغيار مع نظيراتها في الشمال كما أنها تفتقر أيضا الى الولاء والحس الوطني وابلغ نميري بقوله إن هذه القوات المستوعبة ( اذا ما تركت تقبع بمحطاتها وسط أهلها وقبائلها دون ان يتم انصهارها أو نقلها الى الشمال فسوف تشكل خطورة على الأمن القومي برمته سواء تم تقسيم الجنوب أو ظل اقليما موحدا )
ويبدو ان الرئيس نميري والذي كان تفكيره ممزقا بين آراء متناقضة يشير أحدها الى وقف إجراءات نقل القوات الى الشمال وهو قرار تمت المصادقة عليه قبل نحو تسعة شهور (فبراير 82 ) وبين آراء أخرى عبر عنها قادة مثل اللواء البنا تحثه بضرورة الإسراع في تنفيذ قرارات غيار القوات المستوعبة ، قد اتخذ قرارا فوريا بعد استماعه الي ذلك التنوير بتوجيه تعليمات حازمة للاستمرار في خطط الغيار.
خرج اللواء صديق البنا من القصر الجمهوري بمشاعر غامرة من الفرح فالرئيس نميري عبر له عن ثقته المطلقة به وبآرائه وبقدرته على قيادة الفرقة الأولى ولكن بعد نحو شهر من عودته الى جوبا (ديسمبر 82 ) اتصل به رئيس هيئة العمليات الفريق توفيق ابوكدوك يخطره بأن الرئيس نميري اصدر توجيهات جديدة بإلغاء خطط الغيار (لأنها ستقود الى تمرد وسط صفوف القوات المستوعبة )
سنتوقف هنا لاستراحة قصيرة لأن القرارات التي اتخذها نميري خلال الشهور اللاحقة أدت الى انفجار الجنوب على نحو خطير
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى