أفول نجم الصحوة الإسلامية

الحلقة الثالثة : الذكاء الحاد والتناقضات القاتلة
بقلم / بابكر عثمان
تحدثنا في الحلقة الماضية عن ثلاثة من الشخصيات التي الهمت وساهمت في نشؤ وتطور مفاهيم الصحوة الإسلامية مثل الشيخ حسن البنا ( الشيخ الشهيد ) مؤسس جماعة الاخوان المسلمين والأستاذ سيد قطب الذي الهمت أفكاره وآراؤه في تعزيز التوجهات الإسلامية المتطرفة لدى الشباب العربي والدكتور عبدالله عزام والذي اصبح اول العرب الذين ينضمون الى الجهاد الأفغاني في منتصف الثمانينات
في هذه الحلقة والحلقة القادمة سنواصل تسليط الضؤ على شخصيتين كان لهما تأثير عظيم على حركة الاسلام السياسي في الربع الأخير من القرن العشرين وهما الدكتور حسن عبدالله الترابي 1932- 2016 والشيخ أسامة بين لادن
تمتع الترابي بذكاء تنظيمي حاد مع قدرات كبيرة في التنظير الفكري والاجتهاد ، بينما تمتع أسامة بن لادن بقدرات مالية هائلة مع حماس لا نظير له لتطبيق مفاهيم الإسلام السياسي على ارض الواقع ، و رغم ان الرجلين التقيا في الخرطوم في النصف الأول من عقد التسعينات وعملا سويا على تشكيل منظمة عالمية إسلامية و رغم الفارق الفكري والذكاء التنظيمي الذي يختلفان فيه ولكن تجمعهما صفة رئيسية وهي انهما لم يقدرا جيدا البيئة الدولية التي يعملان في ظلها في ذلك الوقت ، كما لم يقدرا جيدا ضآلة الإمكانيات التي يحوزان عليها.
الدكتور حسن الترابي
ولد حسن الترابي في الأول من فبراير 1932 في مدينة كسلا في أسرة متدينة ميسورة الحال ، توفيت أمه وهو صغير، وكان والده قاضيا وشيخ طريقة صوفية ويعد من أشهر القضاة الشرعيين في زمنه وأوّل سوداني يحوز شهادة العالمية من الأزهر.
تتلمذ على يد والده في علوم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات ولهذا يعرف الترابي بقدرته الهائلة على التمكن من اللغة واللعب بمصطلحاتها طوال تاريخه السياسي حتى أن مؤلفاته يصعب على الكثيرين فهمها.
درس الحقوق في جامعة الخرطوم خلال الفترة من عام 1951 حتى 1955، وحصل على الماجستير من جامعة أكسفورد عام 1957، دكتوراه الدولة من جامعة السوربون، في باريس عام 1964. وهو يتقن أربع لغات بفصاحة وهي العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، وعند عودته للسودان عمل أستاذا للقانون الدستوري في كلية القانون بجامعة الخرطوم واصبح لاحقا أول سوداني يتقلد عمادة الكلية.
كان الشيخ الترابي او ( شيخ حسن ) كما يحلو لتلاميذه مناداته ، مثيرا للجدل مثل جده الكبير حمد الجحلان الذي عاش خلال المائة عام الأخيرة في عهد السلطنة الزرقاء ويقال انه ادعى النبوة وكان يحمل باستمرار علي حكام سنار وحسب ود شيف الله في طبقاته فقد بدل بيعته لشيوخ الزمان وكانت له ( صولات وجولات مع حكام زمانه يحمي الناس من ظلمهم) وله في ذلك حكايات ذكرها ود ضيف الله بخاصة أيام بادي الأحمر المعروف بطغيانه ونقل عنه قوله وهو على فراش الموت ( انا كان مت – العيلة ديل – ويقصد بهم حكام سنار – البيقدر عليهم تاني منو ) مات حمد النحلان عام 1705 ولكن حكام سنار ( العيلة ) جاءهم بعد مائة عام من استطاع ان يقضي على حكمهم، اما الحفيد حسن الترابي في القرن العشرين فقد استطاع بسهولة الاستيلاء على الحكم عام 1989 ولكنه لم يبق فيه سوى عشر سنوات فقط ، حيث انقلب عليه تلاميذه وازاحوه بسهولة عن كل مناصبه فيما اطلق عليها المفاصلة.
عاش الترابي كل حياته وهو يحمل في داخله كل تناقضات الفكر والممارسة ، فمن جهة هو أستاذ وخبير القانون الدستوري ولكنه اعترف بأنه من خطط ونفذ انقلابا على الدستور عام 1989 ، كما انه أسس وترأس حزبا سياسيا ناهضا ( الجبهة القومية الاسلامية ) ولكنه أمر بحل الأحزاب الأخرى وصادر حرياتها وجميع حريات السودانيين ، كان ظهوره الأول عام 1964 بالدعوة الي الحريات العامة ( ثورة اكتوبر ) وله اجتهادات دينية مشهورة في هذا الصدد ولكنه سمح باعتقال المعارضين لنظام الانقاذ كما سمح بممارسة ابشع أنواع التعذيب البدني والنفسي، وقد طال هذا التعذيب النفسي والاهانة حتى اقرب الناس اليه وهو صهره الإمام الصادق المهدي.
ورد في موسوعة أكسفورد للإسلام والسياسة الصادرة عام 2020 في مقال كتبه أستاذ العلوم السياسية بيتر وودورد بعنوان ( الترابي ) ما يلي ( يُعدّ حسن الترابي أحد أكثر الشخصيّات إثارة للجدل في العالم الإسلاميّ في النصف الثاني من القرن الماضي؛ فقد كان بالنسبة إلى أتباعه في السودان ملهِماً إيديولوجيّاً وزعيماً كاريزميّاً في السياسة الوطنيّة، بينما كان خصومه السياسيّون، مثلما هو معلوم، يعتبرونه غير مبدئيّ بشكل أساسيّ. أمّا خارج السودان، فقد وجد المسلمون الشباب المتعلّمون أنّ كتاباته مبدعة وتجديديّة، في حين يرى المحافظون في حقل الفكر الإسلاميّ أنّه على تخوم الزندقة، بينما يُنظر إليه، في خارج العالم الإسلاميّ، على أنّه مؤيّد نشيط للحركة الإرهابيّة، ولكنّه سعى من وقت إلى آخر إلى التفاعل مع العالم غير الإسلاميّ.)
ولكن من وجهة نظري آن احد الأسباب الرئيسية لفشل المشروع الإسلامي في السودان يعود الى ان رأس النظام ( حسن الترابي ) كان رجلا حاد الذكاء وهنا يجدر بنا الاستشهاد بما فعل سيدنا عمر بن الخطاب عندما عزل زياد بن سفيان عن ولاية العراق ،وكان زياد من أذكى العرب ، فاحتج الى امير المؤمنين وهو يقول ( اهو تقصير ام خيانة ) فيرد امير المؤمنين قائلا: لم اعزلك لواحدة منهما ولكني كرهت ان احمل فضل عقلك عن الناس.)
وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون في مقدمته ( فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء والكيس مثل زياد بن سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه… ان الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه افراط في الفكر كما ان البلادة افراط في الجمود، والطرفان مذمومان) ذلك ان الذكاء الحاد الذي يتمتع به الترابي جعله ينجرف في سبيل تحقيق طموحاته الشخصية بتزعم حركة الإسلام السياسي في العالم متناسيا القدرات المحدودة للمجتمع السوداني والذي يسعى مواطنوه لتأمين لقمة العيش والتعليم والعلاج في بلد ينهشه الفقر والجوع والأمراض.
فإذا كانت الصحوة الإسلامية التي اجتاحت السودان منذ مطلع الثمانينيات برعاية الدكتور حسن الترابي، فيمكن القول دون مواربة إن تلك الصحوة انتهت بفشل النظام الذي اسسه الترابي عام 1989 ، ليسدل الستار على المشروع الحضاري في ديسمبر 1999 بعزل الترابي عن السلطة وليتحول النظام الى مجموعات متصارعة على المصالح التجارية ثم يفتح كل أراضيه للتفتيش الأمريكي الصارم عام 2004،وتسليم كل ملفات الإسلاميين العرب وغير العرب الى المخابرات الامريكية وقبل ذلك طلب الرعاية الامريكية للتفاوض مع الجنوبيين مما انتهى الى تمزيق السودان.
في الحلقة القادمة سنلقي الضؤ على سيرة أسامة بن لادن ، ضمن الشخصيات الخمس الأكثر تأثيرا على مسار الصحوة الإسلامية العربية.