جَنةُ الإشراق..والأذنُ تعَشقُ قبلَ العينِ أحياناً

جنة الإشراق
بقلم/البدوي يوسف
.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا
كان ذلك حالي مع كسلا .. عشقتها .. قبل أن “أصلها.. أزور جبلها .. أقابل أهلها.. “.
تسمع عن طيبة ناسها .. وعن سيدها الحسن “أب قبة لبنية”، التي يحج إليها الختمية سنويا من كل فجاج السودان .. وعن شاعر جمالها إسحق الحلنقي .. وبلبلها الغريد إبراهيم حسين وصداحها عبدالعظيم حركة .
تسمع عن “كورتها” .. وعن درتها محمد حسين كسلا نجم الهلال العاصمي السابق ، وعن نجمها الساطع المرحوم نزار الخليفة لاعب الميرغني والمريخ العاصمي السابق، قبل أن يسعدك الزمان بأن تكون شاهدا على ميلاد أسطورتها هاشم كجر أبو علي.
تسمع عن قاشها وسواقيها وخضرتها الدائمة وجبالها الشامخة التي تكاد تلامس السماء ، كأنها حسناء “ترضع القمر ” في وصف ذائع للأديب الراحل عمر الحاج موسى وهو يطل عليها من عل .
•••••
تسمع بكل ذلك ، لكنك لا تدرك حقيقة جمالها الآسر و طبيعتها الساحرة ، إلا بعد أن تصلها ، فيبدو لك ذلك الجمال الأخاذ الذي تراءى مزدوج الإشراق للشاعر توفيق صالح جبريل وتدفق لحنا يأخذ بالألباب من حنجرة عبدالكريم الكابلي :
و ابنة القاش إن سرى الطيف وهناً
و اعتلى هائماً فكيف لحاق
و المنى بين خصرها و يديها
و السنا في ابتسامها البراق
كسلا أشرقت بها شمس وجدي
فهي في الحق جنة الإشراق
كان صبحا طلق المحيا نديا
إذ حللنا حديقة العشاق
•••••
تسحرك خضرة سواقيها الراقدة على امتداد الضفة الغربية لنهر القاش القادم من مرتفعات الجارة إريتريا في رحلته الموسمية باتجاه الدلتا ، فتسائل “فراش القاش” مع شاعرها الآخر عبدالوهاب هلاوي على أنغام العندليب زيدان إبراهيم :
الخضرة في الضفة
وهمس النسيم الماش
على حمرة الوردة
وحب الندى الرقاش
غافل وما عارف
إنو الزمن غشاش
بالله ليه يا فراش
خلاك وراح القاش ؟
يشنف آذانك صوتها .. حانيا حينا ، باكيا أحيانا ، في وصفين أو قل حالتين وجدانيتين للحلنقي – إن صح التعبير – يذكره الأول بماض بعيد :
صوت السواقي الحاني
ذكرني ماضي بعيد
وعلى الرمال آثارك
طرتني ليلة عيد
ويشاركه الثاني في وداع “طيره الخداري ” :
حتى السواقي بكت معاي
شاركت في وداع قطارو
ولك إن لم تزر كسلا ولم تستبن ملامح ذلك “الخداري” ، أن تتمعن في “أخدر” عكير الدامر ، فقد تجد فيه ” نفس الملامح والشبه والمشية ذاتها وقدلتو ” :
أخدر ليهو ضل فوقو المحاسن شرن
و أفلج فاطرو زي برق السواري الكرن
يتقسم مقاطع في المشي و يتحرن
زي فرخ القطا الأماتو ركن و فرن
•••••
لا تذكر جبال كسلا إلا ويشمخ أمامك جبل توتيل بنبعه الصافي حيث لا تكتمل زيارتك وسياحتك في المدينة ما لم تمتح من مائه العذب الزلال :
جبل توتيل
عظيم وجميل
شموخ وعلا
جمال تاجوج
كرم أدورب
يزيدها حلا
وتقول الأسطورة أن من يشرب من مياه نبع توتيل عائد لا محالة إلى كسلا وإن طال الزمن ، ولعلك تجد صدى لتلك الأسطورة في توسل الحلنقي – في رائعته فايت مروح وين – لوجه ذلك القمر الذي أطل في سمائه أن يبقى بجانبه قليلا لعله يطيل عمره :
يلاك بعيد نرحل
لي دنيا حنية
نعيش لوحدينا
سيرتنا منسية
أوسدك قلبى
وأرعاك بعيني
أسقيك مياه توتيل
عشان تعود لي
•••
لا يكتمل الحديث عن جمال كسلا ما لم تتوقف عند قصة الحب الخالدة بين تاجوج والمحلق على مقربة من سفوح جبال التاكا الشاهد الباقي على ذلك الجمال:
الصادق يقول أريل مع الغزلان
والكاضب يقول خلقت بلا مصران
وإن كان قيس قد هام بليلى العامرية حتى عرف بمجنونها ، فإن محلق تاجوج الحمرانية كاد أن يمسه الجنون ما أن استجاب لرغبتها في الطلاق ، بعد زواج لم يدم طويلا ، ولم يحتمل العيش بدونها:
راقد رقاد الديك في الحبل
عيشة بلا تاجوج ما بتنحمل
وثق المحلق عشقه لتاجوج بالكثير من الأشعار شدا ببعض منها الفنان الراحل صلاح بن البادية في فيلم “تاجوج “الذي لعب فيه دور البطولة ( المحلق) مع الممثلة ماجدة حمدنا الله(تاجوج) ، وأخرجه الراحل جاد الله جبارة مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، ذلك الفيلم الذي أسقط بعض التفاصيل واكتفى بالتلميح لبعضها تاركا فراغات لا تخطئها عين المشاهد الملم بالروايات المتناقلة جيلا عن جيل.
وتنسب للمحلق أبيات يروى أنه نظمها بين غمضة عين وانتباهتها.. أثناء مرور حسناء من أمام باب مسكن الفقير “المداويا ” فأغرتهما السلام ، ما أربكه فأخطأ قلمه “الدواية” لينغمس في التراب، فعاجله بمربوعة سار بذكرها العشاق :
أكتب يا فقير ما تقول مريضك طاب
ما شفت القبيل جابت السلام بالباب
رقت من وسط وغِلدت مع القرباب
فكرك انشغل قلمك مليتو تراب
نواصل …
عن ناسها وثانويتها و” كورتها”