انتفاضة أبريل هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة الأولى مقدمات قادت الى الانهيار
بقلم /بابكر عثمان
في الساعة التاسعة من صبيحة السبت السادس من ابريل 1985م اعلن الفريق عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب القائد العام ووزير الدفاع في نظام المشير جعفر نميري بيانه الذي اعفى بموجبه رئيس الجمهورية من مناصبه وحل الأجهزة الدستورية في البلاد واعلن حالة الطوارئ وبعد ذلك شكل مجلسا عسكريا انتقاليا تولي السلطات الدستورية والسياسية في البلاد لمدة عام
كان هذا الإعلان بمثابة اسدال الستار على نظام ثورة مايو الذي حكم السودان ستة عشر عاما “69 – 1985م” كما كان تتويجا لنضال جماهيري استمر عشرة أيام هزت السودان.
ففي السادس والعشرين من مارس بدأت تظاهرات شعبية تمكنت خلال عشرة أيام من تحطيم اغلال الخوف وانطلقت نحو هدف رئيسي هو تحطيم النظام.
في هذه الحلقات سنحاول قدر الإمكان الاسهام في إعادة كتابة تاريخ الانتفاضة.
بداية الانهيار
لايستطيع أي مؤرخ ان يضع تاريخا معينا يقول فيه أنه كان البداية لانهيار نظام جعفر نميري الذي استمر ستة عشر عاما تحالف خلالها مع جميع الوان الطيف السياسي بدءا بالشيوعيين 69 – 1971م وانتهاء بالاخوان المسلمين 77 – 1985م حيث انقض عليهم في اخريات أيامه تحديدا في 17 مارس 1985م قبل اقل من شهر من انهيار نظامه.
وصعوبة تحديد تاريخ معين لبداية الانهيار تكمن في وجود اكثر من تاريخ يمكن تحديده فالنظام فقد الهدف الذي ثار من أجله وهو ضرب الطائفية السياسية والرأسمالية والقضاء على الطوائف الدينية وقد خطا في هذا الاتجاه خطوات خطيرة وكبيرة فحل الأحزاب السياسية وامم الاقتصاد وشرد رأس المال الأجنبي وحجم ماكان يطلق عليهم أعوان الاستعمار في الجزيرة أبا وودنوباوي وبالفعل كسر شوكة الأنصار “انصار الامام المهدي” في الجزيرة فأباد وقتل الامام الهادي المهدي الذي بدأ يقود مقاومة مسلحة بمساندة الاخوان المسلمين كما ضرب معقل الأنصار في ودنوباوي، جرى كل هذا في عام 1970م بعد اقل من عام على استيلاء نميري والشيوعيين على السلطة في الخرطوم في مايو 1969م ولكن في ذلك العام نفسه نشب خلاف في مجلس قيادة الثورة الذي كان يضم عددا من الضباط الشيوعيين، فقام النميري بطردهم من المجلس وحجم نفوذهم في الحكم ، فحاولوا الانقضاض عليه في يوليو 1971م فيما عرف ب ( انقلاب يوليو) حيث تمكن الشيوعيون من الاستيلاء على السلطة بالفعل واحتجاز نميري وضباط اخرين غير ان انقلابهم لم يستمر اكثر من ثلاثة أيام فتضافرت عوامل محلية وخارجية أدت الى انهيار الانقلاب وعودة نميري مجددا الى سدة الحكم فأقام المجازر للانقلابيين وحطم القاعدة الشيوعية في السودان والتي لم تتمكن من النهوض مطلقا.
وكان البديل هم البعثيون والقوميون العرب والعلمانيون بالتحالف مع الدول الغربية واستمر هذا التحالف مايزيد عن خمس سنوات جرى فيها التوقيع على اتفاقية اديس ابابا التي وضعت حدا للحرب الاهلية في الجنوب عام 1972م بمنح الجنوبيين حكما ذاتيا كما جرى فيها ولأول مرة كتابة دستور دائم للبلاد 1973م واعيد تأسيس الإدارة المدنية والعسكرية من جديد ورسمت للبلاد سياسة خارجية جديدة اخذت في حسبانها المتغيرات على الساحة الداخلية والخارجية فانهمرت على البلاد معونات ضخمة غير أن كل تلك الثروات جرى تبديدها.
صحيح ان النظام خصص جزءا كبيرا من هذه المعونات للتنمية فتم شق الطرق وتعبيدها وانشئت قاعدة صناعية ضخمة بمقاييس تلك الأيام كما أقيمت منشآت معمارية كبيرة مثل قاعة الصداقة وفندق قصر الصداقة ومبنى مجلس الشعب وأصبحت هذه المنشآت معالم بارزة في العاصمة الخرطوم ولكن عند انهار النظام كانت ديون السودان تزيد عن 14 مليار دولار ومازالت الأوساط السياسية والاقتصادية تتساءل اين ذهبت كل هذه الأموال؟!
مايو والأحزاب
لم تترك الأحزاب مايو تهنا بما حققته من مكاسب على الصعيد الداخلي والخارجي فقامت بأكثر من محاولة للانقضاض عليها لعل اشهرها ما اطلق عليها فيما بعد “حركة المرتزقة” وبدأت هذه الحركة عندما تحالف الاتحاديون وحزب الامة والاخوان المسلمون في الخارج وكونوا تنظيم تحت اسم “الجبهة الوطنية” ودربوا في اثيوبيا وليبيا عددا وافرا من الشباب على حمل السلاح وتمكنوا من ادخالهم للعاصمة الخرطوم وفي 2 يوليو 1976م احتل هؤلاء الشباب المرافق الرئيسية في العاصمة بما فيها الإذاعة غير ان الانقلاب فشل لاسباب عديدة لعل ابرزها اخفاقهم في تشغيل الإذاعة واعتقال الرئيس.
يعتقد بعض كبار المحللين ان انهيار النظام بدأ منذ ذلك التاريخ لان الرئيس نميري ورغم نجاحه في قمع الحركة واستعادة السلطة كاملة ولكنه لم يتمكن مطلقا من ضبط إيقاع الاستقرار في السودان بعدها، فالاحزاب في الخارج أخفقت في اسقاط النظام ولكنها خلخلت قاعدته الجماهيرية كما خلخلت تماسكه الداخلي وبعد ذلك بعامين خطب الرئيس نميري ود المعارضة ممثلة في الأنصار “الصادق المهدي” توفي ٢٠٢٠ والاخوان المسلمين “د. حسن الترابي” توفي ٢٠١٦ والاتحاديين “الشريف حسين الهندي” توفي عام 1982م ونجح في استقطاب الاخوان المسلمين كما نجح جزئيا في استقطاب أعوان الصادق المهدي غير ان الأحزاب حسب اعتراف قادتها فيما بعد ، انخرطوا في مؤسسات النظام ليحطموها من الداخل، وفي حقيقة الامر لم تمض سوى شهور قليلة على أداء السيد الصادق المهدي القسم عضوا في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي حتى خرج من النظام معارضا ولكنه خلال الفترة التي أعقبت ذلك والتي استمرت حوالي ست سنوات كانت معارضته سلمية لم يخرج فيها من البلاد الا من اجل حضور مؤتمرات او القاء محاضرات ولكنه ظل بالداخل يدلي ببعض الاحاديث السياسية والصحافية التي يعلن فيها معارضته مثلما جرى عام 1983م عندما اعلن معارضته تطبيق قوانين سبتمبر الامر الذي جعله عرضة للاعتقال وبالفعل مكث بالمعتقل مايزيد عن العام حيث اعتقل في سبتمبر 1983 واطلق سراحه في ديسمبر 1984
ورغم ان البعض يعتقد ان تطبيق الشريعة الإسلامية في ذلك العام اضفى على النظام مزيدا من القوة والتأييد الجماهيري حيث خرج في الاحتفال بالذكرى الأولى لتطبيق الشريعة في سبتمبر 1984م مايزيد عن مليون مواطن الا ان هذا التاريخ نفسه يحدده البعض باعتباره بداية لانهيار النظام بحسبان ان الشريعة الإسلامية كانت الورقة الأخيرة التي لعبها النميري وهو ويخطب ود الجماهير وقد انهارت هذه الورقة بعد مرور اقل من عام ونصف العام عندما تراجع النظام عن المضي في الخط الإسلامي بضغط وايعاز من الولايات المتحدة والدول الغربية وهذا موضوع اخر سنعرض له حينه ولكن مايهمنا الان ان الاحتفال بالذكرى الأولى لتطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1984م كشفت بجلاء مدى القوة التي يتمتع بها الاتجاه الإسلامي وفي حقيقة الامر كانت هذه القوة نتاج سبع سنوات من العمل الإسلامي الحر وهذا ما هدف اليه الإسلاميون عندما تحالفوا مع النميري عام 1978م ولكن لم يمض سوى أسبوع واحد من فض هذا التحالف الا وانطلقت شرارة الانتفاضة في 26 مارس 1985م من جامعة ام درمان الإسلامية واعقبها خروج طلبة الجامعات الأخرى في العاصمة “جامعة القاهرة – فرع الخرطوم” ومعهد الكليات التكنولوجية وبعدها خرج الشعب الى الشوارع لمدة أسبوع انتهت باستلام الجيش للسلطة واسدال الستار على نظام مايو.
كنت واحدا من الطلبة الذين شاركوا في اول مظاهرة خرجت من جامعة ام درمان الإسلامية الثلاثاء 26 مارس 1985م وكانت تلك المظاهرة تعبيرا عن غضب الطلبة على خطاب عام القاه الرئيس نميري مساء السبت 23 مارس 1985م في افتتاح اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ” التنظيم السياسي الوحيد في البلاد” وخلال الخطاب علق نميري على احداث طلاب جامعة الخرطوم التي جرت في فبراير من ذلك العام كما علق على فض تحالفه مع الاتجاه الإسلامي واتخذ جملة من القرارات فيما يختص بالنشاط الطلابي في الجامعات والمعاهد العليا كان هذا الخطاب بداية الشرارة التي اشعلت النار في النظام واحرقته خلال عشرة أيام فقط
في الحلقة القادمة سنبدأ القصة من أولها عندما جرت مواجهات بين الإسلاميين والشيوعيين في جامعة الخرطوم في فبراير 1985م.