
بقلم/محمدعكاشة
نكسةُ يونيو/حُزيران أو حربُ الأيام السِت بين الأمةِ العربية بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر وإسرائيل كانت إنعطافةً تاريخية في مسارِ الصراع العربي الإسرائيلي عِوضاً عما تركتهُ وخَلفتهُ من إحباطاتَ فاقمت من أزماتِ الإنسان في الوطن العربي لتأخذَ تداعياتُها تتري علي كافة الأصعدة تمسُ الأمة العربية في الصميم في حركةٓ دائرية مستمرة من ( الإنكسارات ) والإحساسِ المقيتِ بلا جدوي الأشياء.
يونيو/حزيران 67 شهرٌ وعام يتضادان مع ماقبلها وما بعدهما من سنواتٍ وأشهر وأيام تتركُ ندوباً غائراتٍ وظلالُ سالبة تسمُ الحياةَ والمواقف وتكبحُ بواعث الرغبةِ في الإنطلاق والإنعتاق من ربقةِ التضعضُع واليأس وإحساسُ العجز.
مُقدمات ما نكتبُ بعاليه نسعي نبحثُ له عن ربطٍ موضوعي لتتضامُ النهاياتُ منطقياً مع المُقدمات وهو إبتدارٌ لازم بُغية الحديث عن الشعرِ وفي نقد تجربة واسعةُ الثراء والذّيوع لشاعرٍ غنائي هو ( تاج ) لشعراء الأغنية السودانية الحديثة.
الأستاذ تاج السر عباس هو من أكثرِ الشُعراء إنتاجاً وتميزاً وظلت كتاباته في صيرورة مستمرة منتظمة بلا انقطاع وبلا فجوات فالشاعرُ ليس كمِثله المُطربين الذين يفُل تقادمُ السنوات حركةُ نشاطهم الغنائي فالحُنجرة أداةُ ( المغني ) قد يَعتريها الضعفُ والوهن بينما ( قريحة ) الشاعر مثلُ الخمر تتعتقُ بمرور الأيامِ والسنوات ومُفردتهُ تتخصبُ وتربو بالقراءة وتراكمِ الخبرات النفسية والإنسانية والحياتية.
الشعرُ العربي والشعر الغنائي علي وجه الخصوص تدور رحاه ويلتفُ لاينفك ( الشاعر ) مُولهاً يتذللُ عند مقام ( المحبوب ) والشعراءُ يُمجدونه علي علاته ويتقربونَ إليه زلفي وهو يجفوهم بلا رحمة ففي عيون الشعرِ الغنائي نماذجُ بريعة نضربُ مَثلاً لهؤلاء الشعراء( المساكين ) يقتفونَ أثرَ ( شيخهم ) الشاعرُ العربي القديم والذي من فُرط عِشقه وإهتيامه بمحبوبته بات في ( تخييلاته ) يحكي أن حُبه استفاضَ حتي أحبت ناقتُها بعيرهِ.
شُعراء الأغنية السودانية ترتقي مفرداتهم وتسمو بالمحبوبةِ إلي ما فوق الأفلاك والسِماك الأعزل وشاعرُنا تاج السر عباس نفسه ليس بِدعاً عنهم فإذ هو في طريقهِ إلي مدينة عطبرة يستغل قطار الوحدة علي الدرجة الأولي تتنزلُ عليه ربات الشعر وهواتفه و المحبوبة ( ست البنات) تجفوهُ ومع ذلك يكتُب:-
مــن كم سنــه ما قلتى لــى اخبارك إيــه..
ومــــالك مشيــــــــــت مِـــن حينـــــــــــــا..
ولا جيتى ماره علينــا يوم زرتينـــا يــا جارة الهنـــــــــا..
ولا قـُلتى يــوم أســأل عليه الزول قريبنـــا ومننــــــــــا
ومعذوره يــا ست البنــــــــات .. يا ست عقابنــا وكلنــــا
مخلوقـــه إنتى تعيشــى فوق وتكونى فوق مــا جنبنـــــا
مــا ست سماحه وست جمــــــال ما زى بناتنــأ وزينــــا..
حالةُ تاج السر عباس مع ( المحبوب ) تكشفُ عن حالةِ ( فناء ) كما الصُوفيين حين يغيب ( العارف ) بالله عن ذاته وعن ( الأغيار ) لتبقي صفات محبوبه وكمالاتهِ وجماله.
إنتشرت أشعار تاج السر عباس ( الغنائية ) بأصوات الفنانين بين الناس كما النارِ في الهشيم وصار بعضها رسائل عشقٍ عند المحبين.
حالةُ ( إنكسار ) الشعراء أمام ( حرم ) المرأة ( ظالمة ومظلومة ) هي فريضةٌ راتبة يترسمُها تاج السر ورصفائه وكلما تمادي ( المحبوب ) في عِناده وإنكارهِ وقسوته كُلما أوغلَ هؤلاء في توطئةِ الأكناف واستمراءُ حالةِ التذّلل بل ولو أخطأت ( المعشوقة ) سارعَ هو بالإعتذار:-
نحن ما دايرين نعاتبك
انت مننا و انت لينا
انت لو غلطان معانا
حقك انت يكون علينا
نحن ناسك يا محبه
ليك عمرنا الباقي
تاج السر عباس في تجربته المُمتدة يتقدُ بحالةِ عِشقٍ مُدنف وهو حين يُخفي ( مناسبات ) أغنياته يَكشفُ سرهُ عُمق كلماته فبعضها نتاجُ تجاربَ شخصية ولا ريب فقلبهُ ( الشفيف) وإحساسهُ المُرهف ووسامتهُ اللافتة جعلتهُ يختلفُ في أحوال ( غرامٍ ) ساطع وحُبٍ لافح ثم هو يتجلي في تجربة هي أقربُ إلي الحقيقة يوم لبثَ في حالة (إنتظار) طويل بشارع الأربعين بأم درمان عند ( الميقات ) المُتفقُ عليه وهو يتلظي بحرِ النهار القائظ قبل ( الموعد ) لساعاتٍ ويخذّلُ ظنهُ ( المحبوب ) ولايفي ومع ذلك يلتمسُ له ( المعاذير) ويختلقُ الأسباب بل ويشتككُ في وجوده وحُضورهِ في المكان والزمان ليكتب ( عروس ) ألحان المطرب خليل اسماعيل:-
أنا المستني في الميعاد وليك حبل الصبر مديت
أغالط نفسي في أصرار وأقول يمكن أنا الماجيت
تخيل كيف مشاعري أنا أنا المصلوب علي الميعاد
أعود كيفن ملآن غربة وأشيل الليل عذاب وسهاد
وياريتك ما وعدتينى وياريتنا نحن كنا بعاد
وبرضي رجعت متصبر معاي خطواتي راجعة البيت..
عودٌ علي بدء..
تجربةُ تاج السر عباس وهو يكتبُ بآخرهِ يدفعُ بخمسة أعمال غنائية جديدة للساحة مثالاً أغنية ( براك هدمت عشك النامي ) مما يُعدُ إنتقالةً كبيرة في تجربته الشعرية والشعورية وهو يخرج من ( عباءة ) المحبُوب ومن أثوابهِ وهو خروجٌ من الِذلة والإفتقار إلي إعتدادٍ حفي بذاته في نديةٍ رفيقة وهي إضافة ثرة إلي مشروعه وهذا التحول ليس ( إنتكاسة ) في مسار تجربته مثل نكسة يونيو /حزيران وليس ذروةً مؤلمةً مثلما حدث لشاعر العاطفة والوطنية المصري كامل الشناوي وهو يكتبُ قصيدة ( لاتكذبي ) نتيجةَ تجربةٍ غراميةٍ قاسية هَزت كيانُه وإنما إتجاهات شاعرنا تاج السر عباس الجديدة في الكتابة هو مُقتضيً ضروريٌ لحركةِ الأشياء والأحياء.