مقالات

جلسة جميلة مع ادباء حول التاريخ المسكوت عنه


بقلم / بابكر عثمان

هاجرت اعداد غفيرة من السودانيين من مختلف المشارب والتخصصات الى دول الخليج ولكن من حسن حظنا ان جاءنا منهم الى الدوحة أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين وأدباء وشعراء.
قبل أيام نظمت مع آخرين ندوة لتكريم البرفسور يوسف فضل حسن المدير الأسبق لجامعة الخرطوم شارك فيها كل من الدكتور .فتح العليم عبدالله ، رئيس قسم الآثار وأستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم سابقا والدكتور الصديق عمر الصديق أستاذ الأدب العربي ورئيس مركز عبدالله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم ، وعقب الندوة انتهز ابن آختي احمد عبدالرحيم مكاوي مدير الدار السودانية للكتب والذي يقيم معنا بالدوحة الفرصة و دعا هذين العالمين الى جلسة أنس بالمنزل.
وقبل قليل انتهت تلك الجلسة والتي طافا بنا فيها بين دهاليز الادب والتاريخ والآثار والفكاهة

فالدكتور فتح العليم عبدالله ، وهو عالم تاريخ سوداني معاصر يحفظ تاريخ السودان الاجتماعي ويحكي عنه بأسلوب لا يمل ابدا ، حدثنا عن نساء سودانيات بارزات، منهن نصرة بنت عدلان والتي عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وكانت سيدة لها شهرة واسعة وشخصية مرموقة فهي بنت آخر ملوك سنار وكانت تسكن قرية السوريبة جنوب مدني و قال إنها كانت بمثابة سفير للنوايا الحسنة ، زار بسببها السودان أكثر من ٤٠ رحالة وكانت طلباتها لهؤلاء الرحالة الخواجات عند سؤالها حاجتها أن اجلبوا لأهل المنطقة الدواء او الغذاء ولم تكن تطلب لنفسها شيئا .
وحدثنا عن سيدة أخرى هي الشول والتي كان منزلها في العباسية مكانا لاجتماعات جمعية اللواء الأبيض في مطلع عشرينا القرن الماضي وموقع منزلها حاليا هو الجامع الادريسي بالموردة

أما المرأة الثالثة والتي تطرق الحديث عن سيرتها فهي زينب بنت بيلا صاحبة أشهر بار في السودان تم افتتاحه في عام ١٩٢٠ وكان يرتاده الخوجات وعلية القوم ، وكيف انها تابت الى الله عام ١٩٤٥ وسافرت بتوصية من الشريف يوسف الهندي الى الحج وماتت في المدينة المنورة بعد شهرين من الحج ذلك العام وتركت بيتها وعددا من أملاكها اوقافا في قلب الخرطوم
وكان مناسبة ذكر هؤلاء النساء هو مقال له في جريدة الانتباهة عن ملكة للجعليين في القرن الثامن عشر التقى بها الرحالة بروس عند زيارته لمقرها في شندي وقد لفت هذا المقال نظر الرئيس المعزول عمر البشير وطلب مقابلته.

كان البشير متضايقا من أن الجعليين تحكمهم امرأة ، فقال للدكتور عبدالعليم ( اين الرجال الجعليين حتى تحكمهم امرأة ) فرد الدكتور عبدالعليم بسخريته المعهودة ( وانت يا سيدي الرئيس ليه متضايق ، أصلا انت مش جعلي ، انت بديري دهمشي)
ثم تطرق حديثه مع الرئيس لحادث مقتل إسماعيل باشا عام ١٨٢٠ وحكى ان ذلك الحادث لم يكن ابدا بسبب مطالبة الباشا بدفع الضرائب كما ورد في كتب التاريخ السودانية ، فتلك كانت أكذوبة ، وحكى السبب الحقيقي للخناقة بين الباشا و المك نمر ، فتضايق البشير مجددا وقال له ( لا تكمل )
ولكن الدكتور فتح العليم أكمل لنا في جلسته الرائعة تلك حكاية الخناقة بين المك نمر وإسماعيل باشا والتي انتهت بتدبير حادثة الحريق المروع

طاف دكتور فتح العليم عبدالله رئيس قسم الآثار وأستاذ التاريخ بجامعة امدرمان الأهلية بمعظم إرجاء السودان في اطار مهام تتعلق بالآثار السودانية ، وهو يعتقد جازما ومن خلال أبحاث ومشاهدات والاستماع الى روايات ان عددا كبيرا من الروايات التاريخية مزعومة وغير صحيحة ، ويرجع انتشار تلك الأكاذيب والمزاعم الى اعتبارات سياسية وأخرى دينية او اجتماعية .
كانت جلستنا المنزلية بصحبة دكتور فتح العليم عبدالله والأديب الكبير الدكتور الصديق عمر الصديق ممتعة الى ابعد حدود الامتاع ، فانت لا تستمع إلى رويات تاريخية او اشعار قديمة او حديثة ولكنك تستمع الى تفسير عميق لتلك الروايات او قصص تلك الأشعار
سأكتفي هنا بإيراد قصتين الأولى حول رواية الدكتور فتح العليم عبدالله عن الملابسات الحقيقية والتي أدت الى مقتل إسماعيل باشا و الثانية عن قصة اولاد زعيم الطريقة السمانية محمد شريف نورالدائم و اخيهم الشاعر محمد سعيد العباسي
فما يجمع بين القصتين عامل مشترك هو الزوجة السرية وعلاقة اولاد هذه الزوجة بأخوانهم من الزوجة الشرعية وبالمجتمع

ابن الزوجة السرية

يقول الدكتور فتح العليم عبدالله أن المك نمر كان له اخ غير شقيق من زوجة ابيه السرية وإسمه ود المنشتح وكان اعور وسكير ومجرم وهذا الأخ هو الذي دبر عملية اغتيال اسماعيل باشا في شندي عام 1822 ولكن كتب التاريخ تذكر المك مساعد بحسبانه أنه ذلك الأخ الذي أشار على للمك نمر بعدم الانفعال عندما وجه له إسماعيل باشا تلك الإهانة المشهورة،

تقول الرواية الرسمية السودانية والتي يتم تدريسها في المدارس أن سبب الخلاف بين المك نمر واسماعيل باشا هو إلزام الاخير بدفع ضرائب باهظة وتستطرد الكتب في سرد تفاصيل عن تلك الضريبة وعندما احتج المك نمر ضربه اسماعيل باشا بالكدوس .

ولكن الدكتور فتح العليم عبدالله يقول إن الحقيقة في مكان آخر تماما ولا علاقة لها بأي مطالب ضريبية ، ذلك ان إسماعيل باشا عند عودته من سنار في طريقه الى مصر، نزل ضيفا عند المك نمر وكان من العادات ان يرسل المضيف بنتا الى الضيف لتنام معه ليلا ، وكانت تلك البنت من ( السراري ) وعند الصباح كان إسماعيل باشا يقف قبالة بيت المك نمر وكان المك يعطيه ظهره عندما خرجت شقيقة المك نمر وأسمها ( ستنا ) وهي فتاة جميلة القوام ، فمرت من أمامه ، فأستفسر الباشا عن ماهية هذه الفتاة الجميلة فرد عليه المك نمر قائلا إنها احدي العاملات لديه و لم يقل له أنها شقيقته ، وهنا قال الباشا وهو يتحدث بلغة عربية ركيكة فيما معناه ( لماذا لم ترسل لي هذه البنت أمس ) فاستدار المك نمر نحو الباشا غاضبا وتعاركا بالأيدي وكان الأخ غير الشقيق ( ود المنشتح ) يقف بينهما ويهدي من غضب أخيه.
.
تساءل الناس عن سبب عراك المك نمر مع ضيفه ولكنه اخفى عنهم السبب وكان اخيه ود المنشتح هو من يعرف ، فبدا منذ ذلك الصباح في تدبير مؤامرة حرق الباشا وجنده .

يقول الدكتور فتح العليم إن المك نمر لم يكن حاضرا لحظه إشعال النيران بعد منتصف ذلك الليل ، فقد خرج مع اهله وكان على مسافة نحو 35 كيلومترا من مكان الحريق ، وهو المكان الذي اقيم فيه بعد نحو 200 عام مستشفى المك نمر في شندي
يخلص الدكتور فتح العليم من إيراد هذه القصة وهو يقول ساخرا لو ان المك نمر أخبر الباشا منذ البداية بأن هذه الفتاة شقيقته لما تجرأ الباشا بطلبها الى فراشه ولكن يبدو ان العادات الاجتماعية منعت المك من البوح بعلاقته بالفتاة ، ثم إن المؤامرة بحرق الباشا وبهذه الطريقة كان ايضا عملا جبانا ، اما اغفال ذكر اسم الأخ غير الشقيق وايراد اسم المك مساعد فهو ايضا من العادات الاجتماعية البغيضة حيث يمتنع المجتمع عن تبجيل اولاد السراري .

وهنا التقط الدكتور الصديق عمر الصديق المغزى من هذه القصة وسرد لنا تفاصيل شيقة عن الشاعر محمد سعيد العباسي ابن الشيخ محمد شريف نورالدائم زعيم الطريقة السمانية من زوجة سرية ( دينكاوية ) وكيف ان وجود هذا الابن وهو شاعر بارع ووسيم كان سببا في تفريق هذه الاسرة بين امدرمان وطابت والنيل الأبيض عندما تفرق ابناْ الشيخ محمد شريف بعد علمهم أن أبيهم كتب في وصيته بالخلافة والثروة الى ابنه الشاعر المجيد محمد سعيد العباسي ( وهو اسم واحد مركب)
و الى هنا استأذن الرجلان في الرحيل بعد ان جلسنا في حضرتهما نحو ساعتين ونصف الساعة من السرد التاريخي الشيق والفكاهة وتلاوة الشعر ، خلصنا الى ان تاريخنا عبارة عن حكايات مروية وان من قام بتزوير كتب التاريخ المدرسية إنما اراد ان يحقق من وراء ذلك منافع سياسية واجتماعية ودينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى