مقالات

حمل السلاح والطريق الثالث والمخرج المُمكن


الدكتور عبدالرحمن الغالي يكتب:-

بسم الله الرحمن الرحيم
حمل السلاح والطريق الثالث والمخرج الممكن
(1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
( إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ (101) لَا يَسۡمَعُونَ حَسِيسَهَاۖ وَهُمۡ فِي مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ (102) لَا يَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ (103) يَوۡمَ نَطۡوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ (104) وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغٗا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ (106) وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (107) قُلۡ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖۖ وَإِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٞ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡتُمُونَ (110) وَإِنۡ أَدۡرِي لَعَلَّهُۥ فِتۡنَةٞ لَّكُمۡ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ (111) قَٰلَ رَبِّ ٱحۡكُم بِٱلۡحَقِّۗ وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (112))
(2)
• تحدثت كثيراً مع أفراد وقيادات من المعسكر المدني الديمقراطي طالباً منهم أن يترجموا شعارهم ( لا للحرب) وينزلونه لأرض الواقع. كانت حجتي بسيطة وبديهية وهي أن لا للحرب تعني نعم للسلام ونعم للوصول للسلام عبر الحوار والتفاوض وليس عبر البندقية. وأن الحوار والتفاوض يكون مع الطرف المختلف معك وليس مع الموافق لك. وفي خلاصة بسيطة ليس هناك إلا معنىً واحداً لمقولة لا للحرب وهي جلوس الأطراف المختلفة في المواقف والرؤى للحوار.
• قلت لهم إذا صعُب عليكم – أنتم المدنيين- الجلوس إلى بعضكم فكيف تطلبون العساكر الذين سالت دماؤهم أن يجلسوا.
• كانت رؤيتي أن يجلس المدنيون في حوار سوداني – سوداني جامع يصل لاتفاق حد أدنى يمثل الثوابت الوطنية التي تقف بموجبها الحرب.
• قوبلت رؤيتي بالرفض بحجة عدم الجلوس مع الفلول أو داعمي انقلاب 25 أكتوبر. قلت ان انقلاب 25 أكتوبر كان شراكة بين المكونين العسكريين وأن بعض داعمي انقلاب 25 أكتوبر وبعض المشاركين في نظام الانقاذ صاروا جزءً من الاتفاق الاطاري . وبغض النظر عمن بدأ الحرب إذا كانت الأولوية وقف الحرب فلا مناص من جلوس الأطراف المختلفة وليس المتوافقة لطاولة الحوار والمفاوضات. بالطبع لم تجد هذه الرؤية أدنى قبول.
(3)
في 28 رمضان طُلب مني توجيه رسالة عقب صلاة التراويح ( تجدون الفيديو في صفحتي) قلت فيها الحمد لله أن هذه الحرب وحتى هذه اللحظة حرب سياسية بين مكونين عسكريين يمكن تصنيفها ضمن الصراع على السلطة. وناشدت الجميع بالابتعاد عن دعم أي طرف حتى لا يحدث انقسام مجتمعي يؤدي بالفعل ورد الفعل إلى نزول ذلك الانقسام للقواعد الشعبية والاجتماعية مما يزيد من احتمال تحول الحرب لحرب أهلية وهذا أخشى ما أخشاه لا سيما ونحن نعلم أن هناك دولاً خارج الحدود تود تأجيج الصراع وتقسيم السودان بل وتدميره إذا فشلت في الاستيلاء عليه.
(4)
وعندما كتبت تحليلي للحرب الحالية في حلقات توقفت عند حد شرح البيئة التي أدت للحرب ولم أواصل الحديث حتى لا ندخل في جدل من أطلق الرصاصة الأولى ولا ندخل في التصنيفات التي تمنع الآخرين من سماع الرأي، فقد فات أوان ذلك الحديث وصار المهم هو كيفية إيقاف الحرب أو محاصرتها في الأُطر السياسية إذا فشلنا في إيقافها حتى لا ننزلق لصراع أهلي.
صار جل تركيزي في صفحتي ينصب على تنوير الرأي العام بالبعد الاقليمي والدولي لهذه الحرب، فقد بات واضحاً أن هناك دولاً لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف بل ربما كانت أغلب الدول المهتمة لا تريد إيقاف الحرب، فالأمم المتحدة التي كانت لها بعثة في زمن السلم سحبتها في وقت الحرب في إشارة إلى أن ايقاف الحرب ليس في أولوياتها، بل لقد صرح أمينها العام تصريحاً غير مسؤول حينما برّر امتناعهم عن بذل الجهود لايقاف الحرب بأن الجنرالين لا يتحليان بالمسؤولية، في مفارقة للمنطق السليم إذ تستدعي عدم مسؤولية الجنرالين وتعريضهم المدنيين للمخاطر ، تستدعي مضاعفة جهود البعثة وليس انسحابها إذا كانت جادة في إنهاء معاناة المواطنين. صارت أغلب صفة عند الكتاب الغربيين في وصف حرب السودان صفة الحرب المنسية. أما الايقاد فتصرفت برعونة كتبنا عنها في مقالاتنا عن تقييم المبادرات. أما الدول الداعمة لأحد طرفي الصراع فقد أعلنت عن نفسها ولم تخفِ إمدادها لأحد الأطراف بالسلاح والمال والدعم الإعلامي واللوجستي والدبلوماسي وربما الاستخباراتي. وظهر دعم الامارات الدبلوماسي في استغلال نفوذها على دول الجوار : تشاد واثيوبيا وكينيا وبعض مسؤولي حكومة جنوب السودان.
(5)
ودون الدخول في هذه التفاصيل كنت قد كتبت قبل أربعة أشهر أن هذه الحرب لن تتوقف لعدة أسباب داخلية وخارجية : الداخلية عدم رغبة القوى السياسية السودانية كلها في اللقاء والحوار مع بعضها لوقف الحرب هذا مع استمرار نهج المكايدات السياسية. وعدم رغبة طرفي الصراع العسكري في وقفها : الجيش لا يقبل أن يدخل التفاوض في وضع ضعيف لا سيما بعد الهزائم المهينة ولا يقبل بوضع يتساوى فيه مع الدعم السريع حسب عقيدته بضرورة احتكاره للسلاح، والدعم السريع لا يريد وقف الحرب لأنه هو الكاسب عسكرياً وكل ما مرّ الوقت اكتسب مزيداً من الأراضي والولايات. أما خارجياً فكما ذكرنا لم تكن هناك إرادة للسلام وهذا موضوع طويل يمكن إفراد مساحة أخرى له.
(6)
بعد تزايد انتهاكات الدعم السريع على المواطنين واتباع سياسة التهجير والاستيلاء على البيوت والممتلكات لا سيما السيارات والذهب والنقود، واتباع سياسة الاعتداءات الجنسية ذات الحساسية العالية لدى الشعب السوداني على الأخص ولدى المجتمع الدولي، وبعد اتباع سياسة تدمير البُنى التحتية غير العسكرية من مصانع وبنوك ومراكز خدمات ومؤسسات الدولة والمؤسسات الثقافية والتعليمية الخ.
وبعد سقوط الحجج السياسية الواحدة تلو الأخرى: ابتداءً من محاربة الكيزان إذ تحفل قائمة قياداته بالكيزان، ثم استهداف مواطنين لا يمتون للكيزان بصِلة بل حتى ضحايا الكيزان من معاشيي القوات النظامية الذين شردهم الكيزان من الجيش والشرطة، ثم سقوط حجة محاربة دولة 56 بانتهاكاته في الجنينة وزالنجي ومنواشي وأردمتا وغيرها من هوامش دارفور. ولم تكن حجة تمثيل الهامش أصلاً منطقية إذ كان الدعم السريع عصاة الاسلاميين لضرب الهامش.
بعد كل ذلك بدأ الخطاب الآن يأخذ منحىً خطيراً وهو المنحى الاثني والجهوي مما عبّد الطريق لانخراط المجتمعات في الصراع.
(7)
مع استمرار الحرب اتضحت مشاكل كثيرة في الجيش رجحت كفة الدعم السريع عسكرياً منها آثار التدمير الممنهج للجيش في عهد الانقاذ بالتخلص من الكفاءات والفساد والانشغال بالتجارة وغياب التجنيد لا سيما المشاة وبناء أجهزة موازية مثل الدعم السريع الذي اعتمد عليه البشير في قتاله لخصومه من الحركات المسلحة وكترياق للجيش من الانقلاب عليه، مما أتاح للدعم السريع تدريباً وخبرةً وجاهزية. ثم جاء التمكين الحقيقي للدعم السريع في الفترة الانتقالية سياسياً واقتصادياً وعدةً وعتاداً ومواقع استراتيجية خنقت الجيش وحاصرته. هذا إضافة للدعم الرهيب بعد الحرب من الامارات وشركة فاغنر والدعم اللوجستي من كثير من دول الجوار بل وبالامداد البشري في بعض الأحيان. وتعذّر ذلك على الجيش من حلفائه الإقليميين لأسباب سياسية واقتصادية تخص تلك الدول.
(8)
رجحان كفة الدعم السريع مع تزايد انتهاكاته الفظيعة على المدنيين إضافة لخطاب كوادره السياسية الجهوي والقبلي لا سيما خطاب جنوده ناشطيه على وسائل التواصل الاجتماعي كل ذلك هيأ بقية مناطق السودان لقبول فكرة التسلح لحماية النفس والدفاع الشرعي عنها حتى لا يحدث لهم ما حدث في الخرطوم والجنينة وزالنجي وأخيراً مدني وقُرى الجزيرة.
كان انسحاب الجيش من مدني القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد انسحب الجيش من مدني بغير قتال في ملابسات يصعب تفسيرها بغير الخيانة:
• فلو طلب الجيش من المواطنين إخلاء المدينة قبل انسحابه ( حتى ولو لم يخبرهم بنية انسحابه) لوجدنا مجالاً للعذر والشك فيما حدث وتفسيره بأية حجة مثل حجة الكمين المكررة أو نفاد الذخيرةإلى آخر الحجج في انسحاباته الكثيرة.
• ولو قاتل وانهزم لوجدنا له العذر.
• ولو ترك الجسر مغلقاً ثم انسحب لكان له عذر.
• ولكن ألّا يحدث كل ذلك، بل ويتم فتح الجسر لتدخل منه دبابات الجيش يقودها أفراد الدعم السريع، كل هذه القرائن أذهبت ثقة المواطن في حماية الجيش وزرعت الشكوك لدى البعض حتى في قيادته العليا.
في تلك الليلة سألني بعضهم ماذا تتوقع؟ قلت أحد أمرين: إما أن يقود الجيش هجوماً مضاداً سريعاً ويكشف للمواطن ما حدث إما بتبرير مقنع للإنسحاب أو بثبوت الخيانة على جهة ما، أو الفشل في ذلك. ويترتب على الفشل في الهجوم المضاد وعدم كشف الملابسات أحد أمرين: إما حدوث انقلاب على قيادة البرهان أو اتجاه المواطنين لتسليح أنفسهم بعد ضياع ثقتهم في حماية الجيش لهم.
سرّع عجز الجيش والانتهاكات التي حدثت في الجزيرة من وتيرة تسليح المواطنين ونفرتهم الكبيرة في ولايات القضارف ونهر النيل والشمالية والبحر الأحمر وتسلّح كثير من القبائل نفسها حتى خارج إطار القوات المسلحة مما ينذر بعواقب وخيمة ودخول الحرب منعطفاً جديداً.
(9)
لا شك أن هذا وضع مؤسف لم نكن نود الوصول إليه، بل هو عين ما حذرنا منه منذ وقت مبكر. ولكن هذا الوضع لا يمكن منعه بالأماني ولا بالشعارات الجوفاء:
• طالما استمر الدعم السريع في انتهاكاته ضد المواطنين ( وهذه ليست تفلتات بل سلوك راتب ونمط سائد)،
• وطالما عجز الجيش عن حماية المدنيين من عدم قدرة أو عدم رغبة،
• وطالما عجز الذين يريدون وقف الحرب ووقف تسليح المواطنين طالما عجزوا عن منع الدعم السريع من الانتهاكات وطالما ظل هذا الخطاب المهدّد لمناطق معينة بالدخول إليها فليس هناك من أمل في وقف التسليح بل وليس هناك من منطق يقنع المواطنين في المناطق المهددة بعدم التسلُّح.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء
(10)
وخطورة نهج الدعم السريع لا تهدد فقط الولايات الوسطى والشرقية والشمالية وكردفان، إن أخشى ما أخشاه من الدعم السريع هو ما سيحدث في إقليم دارفور.
فبالإضافة للإنقسام الإثني الذي زاد عمقاً بعد أحداث الجنينة وزالنجي ومنواشي وأردمتا، وبعد تهديد وحصار الفاشر هناك خطر لا ينتبه له الكثيرون وهو تحول النزاعات القبلية المحدودة بين أهلنا العرب أنفسهم وهي خلافات تتعلق بمسائل تقليدية مثل الحواكير ومسألة النظارات المرتبطة بها والحدود القبَلية الخ إلى نزاعات وجودية.
فتغير موازين القوى في تسليح القبائل ودخول أسلحة ثقيلة وسيارات الدفع الرباعي والكثافة العددية المشارِكة في القتال تنذر بشر مستطير بين أبناء العمومة الذين تربطهم رابطة الاقليم ونمط العيش والثقافة والعقيدة إضافة لرابطة الدم.
فالحرب أيضاً إضافة لتغير موازين القوى وطبيعة التسليح، نتج وينتج عنها تمزق البُنى الاجتماعية الموروثة التي كانت تمنع النزاع وتفضه إذا وقع بواسطة الإدارات الأهلية والجودية الخ. وسيكون السلاح هو لغة فض النزاعات.
كل هذه الأشياء يجب وضعها في الحسبان وعدم النظر بعين الانقسام المزعوم بين شرق النيل وغرب النيل، فنموذج حفتر إذا حدث لا يعني سوى الحرب الأهلية في دارفور وكل مناطق سيطرة الدعم السريع.
(11) المخرج الممكن والطريق الثالث:
للخروج من نفق الحرب وتحولها لحرب أهلية، ولمنع التحشيد والتجييش ولوقف الحرب واستعادة الأمل في مسار تفاوضي مجدي وواقعي يخدم الوطن والمواطن في المقام الأول ويتجنب الوضع الحالي وضع الخسارة للجميع ( lose- lose situation ) أقترح أن يقوم حزب الأمة بابتدار الطريق الثالث باعتباره:
• أكبر حزب سياسي سوداني
• وأنه أكثر الأحزاب إنتشاراً بين المكونات الاجتماعية السودانية
• وأن هذه الحرب تقع في مناطق نفوذه
• وأنه الحزب الذي تربطه علاقات مقبولة إلى حد ما مع طرفي الصراع وتربط قياداته المختلفة روابط قوية بعضهم تربطه روابط قوية بالجيش وبعضهم بالدعم السريع وبعضهم بطرفي الصراع.
• أنه الحزب الذي تربطه علاقات مع قوى نداء السودان سابقاً ومع المجلس المركزي حالياً.
• وأن الحزب نفسه به وجهات نظر مختلفة يمكن مزجها وصولاً للاتفاق على طريق ثالث.
• أنني لمست عشماً كبيراً في حزب الأمة من قطاع عريض من المواطنين وخيبة أمل منهم في عجزه عن ابتدار المبادرات واستغلال إمكانياته وإرثه التاريخي وقبوله ووسطيته.
(12)
معالم الطريق الثالث:
هناك مقترح خطة وضعته لتوضيح معالم الطريق الثالث وخطواته وهدف كل خطوة أرجو أن تجد حظها من النقاش مع قيادة حزب الأمة لنرى إمكانية قبولها أو تعديلها أو اقتراح خطة بديلة تصلح طريقاً ثالثاً يأخذ بيد بلادنا لبر الأمان فالوقت يمضي نحو مزالق أشد خطورة والله سائلنا عن تلك المآلات وهو الحكم العدل العليم وحسبك بها من مساءلة تقشعر لذكرها الأبدان وتشيب الرؤوس.
عبد الرحمن الغالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى