الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام

الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام
الحلقة الثالثة والأخيرة
بقلم / بابكر عثمان
فرض البريطانيون على مصر دفع تكاليف الإدارة الاستعمارية في السودان اذا ما أرادت المشاركة في الحكم وذلك بعد القضاء على دولة المهدية حيث مارست مصر ضغوطا شديدة لعدم استفراد بريطانيا بحكم السودان
كانت تلك التكاليف المنصوص عليها في اتفاقية الحكم الثنائي التي تم التوقيع عليها في عام 1899 تبلغ نحو 300 الف جنيه استرليني سنويا، وظلت مصر ملتزمة بالدفع طيلة 50 عاما ولم تتوقف الا في عام 1954 عقب توقيع اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953
مناسبة هذه المقدمة هي ان بريطانيا لم تتعسف في فرض ضرائب علي السودانيين بسبب ان تكلفة الإدارة كانت مغطاة من الشريك في الحكم ولكن عند خروج الانجليز من السودان وجدت الحكومات الوطنية نفسها امام معضلة كبيرة سببها ازدياد التكلفة الإدارية للحكم ، فقد تولي السلطة شباب وطنيون متعطشون للسلطة ، فبينما كان الموظفون الوطنيون في صبيحة الأول من يناير 1956 لا يتجاوز عددهم 2000 موظف ارتفع هذا العدد ليصل الى نحو 300 الف موظف حكومي عام 1985 ، ولا يشمل هذا الرقم افراد القوات المسلحة.
وبينما كانت ديون السودان الخارجية او الداخلية صفرا في عام 1956 ، حدث اول عجز في الميزانية بعد عشر سنوات فقط من الاستقلال ، أي في عام 1965 وبعد عشر سنوات أخرى بلغت ديون السودان الخارجية نحو 300 مليون دولار ، ليرتفع هذا الرقم الي نحو 16 مليار دولار خلال عشر سنوات اخرى (1975- 1985 ) وفي عهد الإنقاد 1989-2019 وصلت الديون الخارجية الى نحو 60 مليار دولار
اتخذ رجال السياسة الوطنيون الخرطوم عاصمة لحكمهم وكانت مساحة هذه العاصمة لاتتجاوز 10 كيلومتر مربع فقط ، حيث تحدها القيادة العامة شرقا ومحطة السكة حديد جنوبا والنيل الأزرق حيث القصر الجمهوري ومجلس الوزراء وكل الوزارات والهيئات الحكومية على ضفاف النيل الأزرق شمالا، والنيل الأبيض عند المقرن غربا، ففي هذه المساحة تشكت حكومة مركزية قابضة تحكمت في كل السودان جنوبه وغربه وشرقه وشماله دون أي اعتبارات أخرى .
كانت فلسفة حكم السودان تقوم علي نظرية بسيطة للغاية وهي جمع الضرائب والرسوم واحتكار الصادرات ووضع كل هذه الموارد في خزينة واحدة ثم تبدأ عملية التوزيع، حيث الفصل الأول ( رواتب ) والفصل الثاني ( إدارة الدولة ) والثالث ( الدفاع ) أما التنمية فهي من فائض الميزانية وبهذا تعتبر الدولة السودانية هي الوحيدة في العالم التي ليس لها ميزانية للتنمية طيلة 60 عاما تقريبا ، أي منذ عام 1965 عند حدوث اول عجز في الميزانية.
هل يستطيع احدكم ان يذكر مشروعا تنمويا واحدا جرى تنفيذه بموارد الدولة!!!!، الإجابة دون ريب هي لا، فكل المشاريع تم تنفيذها بقروض خارجية او بعون ذاتي من المواطنين.
وكانت الخرطوم هي المدينة المحتكرة للتنمية، فالجسور والشوارع والمستشفيات والجامعات والابراج والفنادق من فئة الخمس نجوم وكل مظاهر التنمية السطحية من بنايات فاخرة وعمارات شاهقة هي من نصيب هذه المدينة المركزية.
كما ان الصناعات الخفيفة منها والكبيرة فهي أيضا في الخرطوم مثل مصانع الزيوت او الصابون وغيرها، فاضطر العمال والمزارعون الى ترك قراهم ومدنهم للهجرة الى العاصمة .
ومما زاد الطين بلة حلول كوارث الجفاف والتصحر والمجاعات في عدد من أقاليم السودان في مطلع الثمانينيات ليعقبها الكارثة الكبرى التي حلت بالبلاد في نهاية الثمانينيات عندما تفجرت ما يمكن ان نطلق عليها النسخة المحدثة من المهدية عندما سطت الجبهة الإسلامية القومية على الحكم، فاشتد أوار الحرب في الجنوب والغرب والشرق وتدهورت العلاقات مع معظم دول العالم وانقطعت المعونات التنموية ووطئت ارض السودان لأول مرة منذ الاستقلال قوات اجنبية محتلة في الفشقة في القضارف وفي حلايب ثم قوات دولية في دارفور وفي جبال النوبة وفي النيل الأزرق وكانت البلاد ولعقود تحت وطأة عقوبات دولية ورئيسها وعدد من مساعديه مطاردون من المحكمة الجنائية الدولية.
كانت الخرطوم في عشية انهيار حكم رئيسها عمر حسن البشير في 11 ابريل 2019 تموج بنحو 10 ملايين شخص يعانون من الفقر المدقع والفاقة وتلتمع عيونهم ببريق أمل في رؤية فجر جديد يقوده رجلان احدهما ضابط ظهر في المشهد لأول مرة ويطلق عليه عبدالفتاح البرهان، فأصبح بين عشية وضحاها قائدا عاما للقوات المسلحة ورئيسا لمجلس عسكري انتقالي والثاني اسمه محمد حمدان دقلو ويلقب ب ( حميدتي ) واصبح أيضا بين عشية وضحاها نائبا لرئيس المجلس العسكري وقائدا لا يشق له غبار لقوات الدعم السريع والتي كانت تابعة للقوات المسلحة.
ولكن هذان القائدان فشلا علي نحو مأسوي في قيادة البلاد الى بر الأمان ، فتحالفا أولا على قمع المدنيين المعتصمين امام القيادة العامة وفضا بالسلاح المميت ذاك الاعتصام وقتلا مئات الشباب ، ثم انحنيا للعاصفة بسبب الضغوط الثورية والدولية ليوقعا مع المدنيين على وثيقة لتقاسم السلطة دامت لفترة عام ونصف العام ليتحالفا مرة أخرى وينفذان انقلابا على السلطة المدنية الانتقالية ولكن بعد عام ونصف العام من الفشل في تشكيل حكومة والمضي قدما لإجراء انتخابات اختلفا ولكن هذه المرة ووجها السلاح الى وجه بعضهما البعض في صبيحة 15 ابريل 2023 ليسجل الناس تاريخ ذلك اليوم بالدموع والدم.
فترك مئات الناس منازلهم لتستبيحها العصابات المجرمة أو أولئك الجوعى والمشردون وتم نهب الأسواق وحرق المحلات، وفقد التجار أموالهم وحرقت الجامعات ومراكز البحث العلمي ولم تسلم حتى الحيوانات في الحدائق او المعامل من الأذى.
يمكنني القول دون مواربة ان السودان بعد 15 ابريل 2023 لن يكون بأي حال من الأحوال هو السودان قبل ذلك التاريخ.
ولكن بالنظر الى ان التاريخ والوقائع التي ذكرناها خلال السبعين عاما التي أعقبت استقلال السودان لم تكن مشرفة او ان الإدارة لم تكن حكيمة وان النتائج التي ترتبت عليها يجب الا تكون مفاجأة فإن المستقبل والذي بدأت ملامحه في التشكل، سيكون مختلفا دون ريب.
واعتقد من وجهة نظري ان المركزية التي كانت الخرطوم المستباحة بؤرتها ستنتهي الى أقاليم تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي.
وفي هذه الحالة يجب ان يستعد القادة الاقليميون إذا جاز التعبير في أقاليم مثل دارفور والشمالية والنيل الأزرق والشرق وكردفان وجنوب كرفان الى التعامل بحكمة مع الوضع الجديد حيث ان حكومة مركزية قابضة في الخرطوم لن تقوم لها قائمة بعد الآن.
والله المستعان