تقارير وحوارات
أخر الأخبار

دكتور رياك مَشار وعُقدةُ النُخبةُ الشِمالية


دكتور رياك مَشار وعُقدةُ النُخبةُ الشِمالية

 

بقلم/مُحمّد عُكاشة 

 

صَحبتُ الدكتور رياك مشار من بعدِ مُنتصفِ التسعينيّات إلي مدينةِ جوبا لقضاءِ عُطلةِ أعيادِ الكريسماس ومُشاركةُ أهله إحتفالاتهم ولقد كنتُ أكثرُ سعادةً بالرحلةِ فهي من جهةٍ تُغذّي إحِساسَاً لازمَني مُنذُ الطُفولةِ حينَ كنتُ تلميذاً بالصفِ الثاني بمدرسةِ (واو) الإبتدائية خصَصت ادارتهُا مُدّرساً للُغةِ العربيةِ والتربيةِ الاسلامية لي ولبعضِ الشِماليين في الفُصولِ المُتقدمةِ وشهدتُ وقتذاكَ احتفالاتٍ عديدة وأجراسُ الكنائسُ تَدقُ والترانيمُ والصَلواتُ تُتلي ووالدي ( الشمالي ) حَسُنَ الإسلامِ يُسبغُ وضُؤءه للصلاةِ كانَ لا يجدُ حَرجاً لمُشاركةِ زُملائي أعيادهمُ ومُناسباتهم الإجتماعية والذين كانوا أكثرَ حفاوةً وأقربُ.

تَنامَي الاحساسُ بعلاقاتٍ حَميدةٍ في مراحلَ مُختلفةً مع شُخوصٍ نابهينَ رجالاً ونساءً وفي مجالاتٍ عدة.

الدُكتور رياك مشار في تلكَ الرحلةُ أستكشفُ شخصيتُه علي ضُوء مَقولاته ومَواقفهِ أعانني في ذلك رفيقي في الرحلةِ السيّد جوزيف لاسو وزير الدولة للإعلام في حُكومةِ الديمقراطية الثالثة ليستبينَ نقاشُه وحُواره معي علاقةُ الجنوبِ بالشمال عبرَ الحِقبِ التاريخية والحُكومات المُتعاقبة وأدوارُ النُخبةُ الجنوبية لدعمِ الوحدة من لدُن عبدالله استانسلاوس بياسما حتي دكُتور جون قرنق دي مابيور.

حالةُ (الإستعلاءِ ) المَقيتةُ تجعلُ (الانتجلسيا ) الشمالية المُستنيرةُ و( القارية الكتاب ) سواءً بسواء مع ذاكَ الذي يَرعي غَنمُه في أقصا الشمال بقريةٍ خاملةِ الذكرِ عندَ مُنحني النيل والذي إذا تحدثَ فهو في فَهاهةِ باقلٍ وهو بطِمريّه يُفتيكُ يُجيبكَ بمنِخريه مامعناهُ بأن هؤلاء لافكاك لهم بغيرِ (الاستِتباع) لنا لإدارة شأنهم وهؤلاءِ هذه تشملُ دكتور رياك ومولانا أبيل الير وفرانسيس دينق وبونا ملوال وجوزيف قرنق وغيرهم ممن لمعَ اسمُ السودانِ ( القديم) بإسهامهِم الفكريّ والسياسيّ في المحافلِ الدولية والإقليمية.

ذاك الذي هو من غِمارِ الناس وهذا الذي هو من صفوةِ متعلمي الشمال لا تنفكُ (عُقدة ) نفوسهِم وسَخائمَها لتَستعلي علُواً كبيراً تجاه الجنوبِ وشعبهِ بلا ثمن.

ما ظَلت تُكابدهُ (النخبة السودانية ) من إعتلالٍ في التفكيرِ وقُصورٍ في النظرِ وإمتلاءٍ متُوهم هو ماقادَ إلي تعميقِ النزاعِ وتوسيعِ الشُقةِ بين شعبين ما يجمَعُ بينهما اكثرَمما يُفرق.

المثُقفونَ والسياسيّونَ في الشمال لم يَبذّلوا جهداً لوحدةِ الشمالِ والجنوب وظلت أفكارهُم ومواقفُهم مُذبذّبةٌ عدا رجلٍ واحد هو الاستاذ مَحمُود مُحمّد طه الذي قدم أطروحتهُ قبل ستةِ عُقود وخَلُصَ إلي أنَ المُشكلةُ ليست في الجنوب وإنما في الشمال.

الدكتور رياك مشار ظلَ طِوال نشاطهِ السياسي وكفِاحه من أجلِ شعبهِ يضعُ نَصبَ عينهِ وحدةٍ طِوعيةٍ جاذبةَ ولذا تأرجحتِ مواقفهُ بين الصُلحِ والقتال مع نظامِ الانقاذ ثم هو بعد الانفصالِ يتشاركُ حُكم جنوبِ السودان ثم يُخالفهُ وفقَ منظورهِ وحُقوق شعبه ويُقدمُ روحه فداءً. 

ثم…عِلاقتي وكِتاباتي وإرتباطي بالجنوبِ لا يتزيٍدنَ به علينا أحدٌ وقد تجاوزتُ التعليقَ علي بعضِ تعليقاتٍ في مواقعَ مُختلفةٍ لأنها تصدرُ بلا منطق ولابُرهان ولمِثل هؤلاءِ لا نغمسُ القلمَ في دواتهِ لنجُشمُه عناءَ الردِ والمُحاججةُ بغيرِ سِجالٍ موضوعي وبما لا يَفيد غيرَأن الدكتور الفاتح حسين القانوني المُخضرم يَهدينا سُبلَ الكتابةِ ونحَتفي بمُلاحظاتهِ وهو يقول:-

(شُكراً على هذا الموضوع ولكني أعتقدُ أنُه ما زالت في جُعبتكِ اشياءَ يجبُ أن تُكتب عن مشار وعن الجنوب وعن المشاعرِ السُودانيةُ الجنوبية.

ما زال الطرفانِ يَريان في كليهما أشياءَ جميلة وحُبٌ أخوي كبير يتجاوزُ الحروب والاسقامَ القديمة فهلا تعرضنا لها حتى نؤكد بل ونعُيد ما تبقى من مياه إلي مجاريها الطبيعية؟)

تعليقُ الدكتورالفاتح ومُلاحظتهِ تقتربُ من حالةِ صَديقنا تانقون الذي كان منزلهُ بضاحيةِ السلمة قُبالةِ مُجمع ساريا الفاخر ملتقيً لثلةٍ من المُثقفين الشماليين ومنتديً يعُززُ علاقات البلدين قبل الانفصال بحواراتٍ فعَالة.

تانقون يُبارحُ الخرطومَ لنكتبَ في سِيرته حينذاكَ مَحزونُونَ لفِراقه :-

( ..وجهُ صَديقى يترآءى كما الأحلامِ ويبدو.

فى صُورتهِ عبرَ السنواتِ أطفالُ قبائلِ الباريا يدلقُونَ على وجوهُهم دفَقاتٍ من ماءِ المطرِ عند تخوم (منقلا) وسِحرُ مناخاتها الاستوائيه فى خفةٍ وحُبور.

الجنوبُ فى سِحره وطلسمهِ وضؤؤهِ اليقْق يرسمُ فى مَخيلةِ طفلّ ذّكي مُتوقدَ العَينين طَيفاً من أحلامٍ بعيدة.

النيلُ فى سَلسلهِ وصَهبائهِ يهدُ جسمهُ الناحلِ ويهديّه رحلتهُ الطويلةُ الأبديةُ فى فصولِ التوحُد مع ذاتهِ ومُفرداته ويخطُ ملمحاً لطريقٍ وعرٍ ومُوحش.

النيلُ ذاتهُ يحتوشهُ طفلاً وفتيً يَلمعيّاً وطالباً للفلسفةِ عند ميناءِ الاسكندرية وقد نامت نواطيرُ مصرَ عن ثعالبها وهو قد أسرجَ ليلهُ يُحاور سارتر وسيمون وفلاسفةُ الاغريق والحكمةُ ضالته.

ثم وهو فى غَمرةِ هذا وذاك من جَدلٍ مثمرٍ ومُماحكات يرقبُ الوطنَ ويثقبُ مُستقبلهُ فى شأنِ وحدةٍ تنتظمُ لو (الاماني بإيدى) حتى مصرَ هذه..الشقيقةُ..التي لا تَعرُفنا إلا فى الأزمات على حد قولِ الاستاذ الطيّب صالح.

الوحدةُ جاذبةٌ أو غيرُ جاذبة هى مُرتكزُ تفكيرهِ وعملهِ ونجاحاتهِ ونشاطهِ السياسى الذي ابتَدرهُ مسئولاً عن مكتبِ الحركة الشعبية في القاهرةِ والخليج فى ظروفٍ عصيبة.

ثم وهو فى مشروعهِ وتفكيره وخطهِ حُضورٌ شفيف لقضايا المرأة السودانية فى حُقوقها واستحقاقاتها.

التحياتُ النواضرُ دكتور مشار وتانقون وشعوبُ جنوبُ السودان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى