مقالات

الانتفاضة السودانية 1985.. هكذا بدأت وهكذا انتصرت الحلقة العشرون : كرة الثلج المتدحرجة

 

بقلم / بابكر عثمان

نواصل في هذه الحلقة ما انقطع من حديث حول تداعيات خروج طلبة ام درمان الإسلامية في مظاهرة محدودة في تاريخ 26 مارس 1985 تنديدا بتصريحات الرئيس نميري حول حل اتحادات طلاب الجامعات في خطابه الجرئ أمام الاتحاد الاشتراكي تعليقا على صدور نتائج التحقيق في أحداث جامعة الخرطوم في فبراير من ذلك العام عندما اعتدى طلاب إسلاميون على زملائهم قادة اتحاد الجامعة على خلفية طباعة وتوزيع بيان صدر عن طالب إسلامي منشق اتهم فيه زملائه في التنظيم بالسهر ليلا مع زميلاتهم الطالبات ضمن التنظيم.
وإذا جاز لنا تسمية مظاهرة طلاب جامعة أم درمان الإسلامية بكرة الثلج ، فقد تدحرجت تلك الكرة لتكبر على نحو مثير، ومما زاد في حجمها ودورانها مغادرة الرئيس نميري إلى الولايات المتحدة في صبيحة اليوم التالي لتلك المظاهرة مستهينا بما كان يجري في البلاد واعتقادا منه ألا شئ يهدد سلطته الراسخة في السودان منذ ستة عشر عاما
ولكن السودان في ذلك الوقت بدا وكأنه قنبلة موقوتة ، فالحرب الأهلية في الجنوب عادت لتدور رحاها منذ 1983 وأسفرت عن توتر سياسي وعسكري عظيم ، والمجاعة تفتك بسكان غرب السودان مما اضطر عدة مئات من الآلاف منهم إلى النزوح إلى العاصمة الخرطوم ، والفقر والفاقة ضربت سكان الشمال فهاجر ملايين منهم إلى العاصمة أو إلى دول الخليج، كما إن الوظيفة المدنية والتي يشغلها في ذلك الوقت نحو 300 ألف موظف فقد أصبح راتبها لا يكفي ( حق الفطور ) إذا جاز التعبير
في ذلك الوقت استقبل السودان ملايين اللاجئين من دول القرن الإفريقي الذين فتكت ببلادهم الحروب والجفاف والمجاعة
ورغم كل ذلك طبق نظام الرئيس نميري قوانين مشددة لمحاربة السرقات وشرب الخمر والتسكع مع النساء وأطلق على تلك القوانين ( الشريعة الإسلامية ) في محاولة يائسة لضبط السكان وإخضاعهم وترهيبهم
مظاهرة الردع
الى يوم الاثنين ، الثاني من ابريل 1985 كانت الانتفاضة عبارة عن مظاهرات طلابية تختلط باحتجاجات عنيفة يقوم بها شباب يائسون من غرب السودان يعيشون في ظروف معيشية قاسية في الخرطوم ، وأسفرت المعالجات الأمنية التي تولى زمامها جهاز امن الدولة مع شرطة العاصمة أسفرت عن وقوع عدد من الضحايا ، الأمر الذي أدى بنقابة الأطباء التي يترأسها الدكتور الجزولي دفع الله إلى إعلان الإضراب ، فقامت السلطات الأمنية باعتقاله في صبيحة السبت 31 مارس ومعه عدد من الناشطين الآخرين ، رغم أن الدكتور دفع الله ( أصبح فيما بعد رئيسا لوزراء الانتفاضة ) كان مؤيدا بشدة لتوجهات نظام مايو ، ونقل عن الأمين العام للاتحاد الاشتراكي السوداني بالإنابة اللواء بابكر عبد الرحيم قوله ( إن المظاهرات كانت عبارة عن حوادث عنف وتخريب وإن الذين شاركوا فيها أغلبهم من الوافدين غير السودانيين ) وأضاف في تصريحات صحفية نقلتها عنه صحيفة الشرق الأوسط ونشرتها في عددها الصادر يوم الأحد الأول من ابريل ( أن الأخوان المسلمين والشيوعيين والبعثيين استغلوا الأحداث ) ثم هاجم نقابة الأطباء مشددا بالقول ( إن النظام لا يسقطه إضراب أطباء )
في يوم الأحد الأول من ابريل شعر قادة النظام في الخرطوم بضرورة تحرك شعبي مضاد ليظهر استمرار الشعب في تأييد الرئيس نميري، والالتزام بما كانوا يطلقون عليها ( ثورة مايو ) فدعوا الى مظاهرة بعنوان ( مظاهرة الردع ) ، فانطلقت تلك المظاهرة في صبيحة الاثنين الثاني من ابريل بمسيرة ضمت عدة مئات تجمعوا امام المبنى الرئيسي للاتحاد الاشتراكي وتوجهوا لميدان السوق امام البوابة الجنوبية للقصر الجمهوري ، أو ما كانوا يطلقون عليه حينها ( قصر الشعب ) حيث انضم إليهم عدة آلاف يحملون لافتات مؤيدة لنميري. وتحدث لتلك المسيرة كلا من نائب الرئيس للشؤون السياسية الرشيد طاهر بكر وكان يشغل قبلها رئيسا للوزراء ( 1978 -1978 ) وأمين فرع الخرطوم بالاتحاد الاشتراكي ابوالقاسم محمد إبراهيم ( وهو قائد تاريخي في نظام مايو وأصبح نائبا للنميري ( 1975-1980 ) قبل أن يفقد حظوته، ندد هذان القائدان بما أطلقا عليها ( المؤامرة ضد ثورة مايو )، ولم يستغرق إلقاء الكلمات سوى دقائق معدودة على غير العادة قبل أن يتجه بعدها المتظاهرون إلى شارع القصر تجاه محطة السكك الحديدية ليتفرقوا دون حوادث.
كانت هذه المظاهرة هي قاصمة الظهر للنظام ، فقد شعر القادة السياسيون المعارضون الى أي مدى انهارت معنويات النظام والى أي مدى تقلص التأييد الشعبي له ، فشجعهم ذلك على إعلان خطوة جريئة للغاية وهي الدعوة الى مظاهرة حاشدة يوم الأربعاء، الثالث من ابريل
السهم الأخير
في ذلك اليوم نفسه وفي محاولة لتهدئة النقابات والتي بدأت تتحفز لإعلان تأييدها لإسقاط النظام ، اعلن وزير العمل عن زيادة في المرتبات تبلغ 40% للعاملين ذوي المرتبات الصغيرة و 30% للرواتب المتوسطة و 20% للرواتب المرتفعة وأن هذه الزيادات ستطبق بشكل مرحلي بحيث تمنح 50% في الشهر الحالي و 25% العام القادم و 25% في العام الذي يليه. كما تحدث وزير العمل السوداني عن علاوات جديدة ستمنح للمهندسين لتتماشى مع رواتب الأطباء وحل مشاكل ترقيات المدرسين لتشمل 70 الف مدرس كما تقرر منح أصحاب المعاشات زيادات تتراوح بين 35% – 50%. وتقرر منح وكلاء الوزارات امتيازات منها استخدام السيارات والوقود و التليفونات ، تم إذاعة هذه الزيادات مرات متعددة في إذاعة ام درمان و التلفزيون القومي ونشرتها الصحف في اليوم التالي
في واقع الأمر كان الإعلان عن هذه الزيادات هو السهم الأخير الذي أطلقه النظام في محاولاته اليائسة لتجاوز أزمة المظاهرات والاضطرابات السياسية والفراغ السياسي وانحطاط معنويات الشعب ، ولكن ذلك السهم لم يصب هدفه ، فالتحضير للإضرابات السياسية استمر في التصاعد ، فقد استمر إضراب الأطباء ودخل في يومه الخامس، ويعمل أطباء متطوعون في علاج الحالات الطارئة، في ذلك الصباح ( صباح مظاهرة الردع ) أعلن اتحاد نقابة موظفي البنوك نيته تنظيم إضراب يوم الخميس 4 ابريل ودعا الاتحاد في بيان أصدره في ذلك اليوم ( الاثنين ) جميع أعضاء النقابات السودانية للاشتراك في اجتماع علني سيعقد غدا الثلاثاء صباحا إمام كلية الطب.
وغدا لناظره قريب ، تابعوا معي في الحلقة القادمة تدحرج كرة الثلج لنشهد كيف احتشدت النقابات ومعها جميع ألوان الطيف السياسي في مظاهرة زلزلت عرش النظام ، وكيف قضى الصادق المهدي تلك الأيام.
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى