الانتفاضة السودانية ،،، هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة التاسعة عشر : نميري في حديث متفجر قبل ثلاثة ايام من عزله
بابكر عثمان
قبل ان ننتقل الى الحديث المتفجر والغريب الذي اطلقه الرئيس جعفر نميري من مقر اقامته في واشنطون في بيت ابن خالته سفير السودان بالولايات المتحدة عمر صالح عيسى ونشرته صحيفة ( الشرق الأوسط ) اللندنية في عددها الصادر في تاريخ 3 ابريل ، دعونا أولا نلقي نظرة على الاحداث المتفجرة قبل نشر ذلك الحوار
توقفنا في الحلقة السابقة عند الاضراب الذي قادته نقابة الأطباء وتشكيل خلية الأزمة في جهاز الأمن برئاسة اللواء عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز الأمن ، حيث اتخذت تلك الخلية عددا من الإجراءات للسيطرة على الأوضاع المتأزمة منها قرارات باعتقال عدد من النقابيين والسياسيين منهم د. الجزولي دفع الله رئيس نقابة الأطباء
السيطرة على الوضع الأمني
اتبعت الخلية الأمنية نحو ست إجراءات للسيطرة على الوضع، جاءت على النحو التالي :
1. اغلاق الجامعات وعددها خمس ، في محاولة لكبح جماح الطلاب
2. القبض على الناشطين من النازحين من غرب السودان وتحويلهم الى المحاكمات الفورية او ترحيلهم الى أقاليم أخرى
3. استخدام عنف اقل في مواجهة سكان العاصمة
4. القبض على الناشطين البارزين من قيادات النقابات
5. سياسة إعلامية جوهرها تصوير المظاهرات على غير حقيقتها
6. زيادة مرتبات العاملين في الأجهزة الحكومية
مطاردة النازحين
في اليوم السادس للانتفاضة أي في يوم 31 مارس نقل عن رئيس شرطة الخرطوم اللواء ابراهيم احمد عبد الكريم قوله إنه تمت إقامة 12 مركزا في العاصمة لاستقبال النازحين الذين سيتم ترحيلهم
فيما قال حاكم الخرطوم بابكر علي التوم لصحيفة (الأيام) إن 690 الف شخص في العاصمة ليس لديهم سكن لائق وإن الجيش والشرطة سيتعاونون في تشديد القيود في جميع النقاط الست لدخول الخرطوم، كانت السلطات تحاول بشئ من الخبث وسؤ الطوية تصوير الانتفاضة على أنها نتاج الاحوال السيئة للنازحين القادمين من غرب السودان والذين نزحو نتيجة الجفاف والتصحر الذي ضرب مناطقهم ، وان معظم الشاب من غرب السودان هم متبطلين وتحاول الحكومة نقلهم الى مناطق الانتاج ، ومثل هذه التصورات والتصريحات هي محاولة لصرف النظر عن السياسات والتوجهات الاقتصادية الخاطئة التي اورثت الدولة والشعب الفقر والجوع ، مضافا اليها بطبيعة الحال التحولات المناخية التي ادت الى الجفاف والتصحر مما تسبب في مجاعات هائلة ليس في السودان وحده انما في منطقة القرن الافريقي باكملها وكذلك الحروب الاهلية في المنطقة والتي نتج عنها وصول مئات الألاف من اللاجئين.
أسعار خرافية للبنزين
في ظل هذه المعطيات ارتفعت اسعار البترول عالميا ووصل سعر جالون البنزين في السودان الى ارقام خرافية فمن 4.5 جنيه ( نحو ٢ دولار ) الى 8 جنيه ( ٤ دولار ) وذلك في السوق الرسمي أما في السوق الأسود فقد وصل سعر الجالون الى 28 جنيها ( ١٤ دولارا ) وقال سائق سيارة أجرة لمراسل جريدة القبس الكويتية نشرته في عددها الصادر في 31 مارس ( عندما يفرغ البنزين من سيارتي فليس أمامي الا ان اسحبها الى مكانها امام منزلي ثم ابدا رحلة عذاب في البحث عن البنزين في السوق الأسود ) فيما صرح موظف حكومي قائلا ( أسرع بعد صلاة الفجر الى احد الأفران لأجد مكانا في طابور الواقفين لأحصل على الخبز ) فهذا الموظف هو رب أسرة تتكون من والده ووالدته وزوجته وخمسة من الأبناء حيث يشتري رغيف يوميا بخمسة جنيهات بينما مرتبه لا يتجاوز 250 جنيه شهريا
الموقف المصري
الرئيس نميري في واشنطون ونائبه عمر محمد الطيب في الخرطوم يحاول ان يبقي الاحوال مستقرة حتى عوده رئيسه ، في هذا الوقت بالذات والشوارع في الخرطوم متحفزة للخرطوم الكبير صرح الرئيس المصري حسني مبارك لوسائل اعلام محلية ان بلاده لن تتدخل في أحداث السودان وقال باللهجة الدارجية “أهل السودان يعرفون كيف يتصرفون في امورهم. ونحن ما يصحش نتدخل في امورهم الداخلية لان ده موضوع داخلي في السودان وهو قادر على السيطرة على الأوضاع فيه”
أما الأمين العام للاتحاد الاشتراكي بالإنابة وهو منصب رفيع كان يشغله اللواء بابكر عبد الرحيم فصرح لوسائل الاعلام المحلية ان المظاهرات عبارة عن حوادث عنف وتخريب وأن الذين شاركوا فيها أغلبهم من الوافدين غير السودانيين ) ويضيف في تلك التصريحات التي نقلتها عنه صحف عربية ايضا ( أن الاخوان المسلمين والشيوعيين والبعثيين استغلوا الأحداث )
وهاجم اللواء عبدالرحيم ( نقابة الاطباء ) و شدد ان النظام ( لا يسقطه اضراب أطباء وأن الرئيس جعفر نميري لن يقطع زيارته إلى واشنطن)
نميري في حديث مشتعل
في يوم الثلاثاء الثاني من ابريل وكان الرئيس نميري على موعد للقاء الرئيس الامريكي آنذاك رونالد ريغان ذهب مراسل الشرق الأوسط الى الرئيس نميري في منزل سفير السودان بواشنطون ( عمر صالح عيسى ) فأدلى له الرئيس بتصريحات، أقل ما توصف بها أنها نارية ، فقد صرح قائلا وبلهجة حاسمة ( انا ما في واحد يقدر يشيلني ) هكذا اوردتها صحيفة الشرق الأوسط ووضعتها كمانشيت للمقابلة التي نشرتها في يوم الأربعاء 3 ابريل 1985 وكانت مياه كثيرة قد مرت تحت جسر تلك الايام العصيبة قبل نشر ذلك الحوار، يقول نميري ايضا (انا راجع السبت القادم الى السودان ومنها مسافر باكستان ، حتى لو حصلت حاجة وتغير الوضع حاركب طيارتي وارجع وما حا أعمل زي التانيين الخوافين الطلعوا من بلدهم )
لم يكن نميري في تلك الايام يخشى شيئا ولكنه في نفس الوقت لم يكن ينفي كل الاحتمالات وهو يجيب على أسئلة المراسل قائلا ( انا مستعد امشي واناضل من جوه بلدي. ديل ما بيعرفوا منو هو نميري. انا لا اهرب من بلدي ، الإخوان المسلمين اجتمعوا وتابعنا تدابيرهم في احتواء الحكم والانقلاب الأبيض فقمنا باعتقالهم ، وجدنا في وثائقهم صفا ثانيا وثالثا وليس عندهم قاعدة ولكنهم تحركوا لخلق فوضى، استعجلنا اعتقالهم – الإخوان – لأنهم اشتروا اسياخ وحديد ب 30 الف جنيه لتستعمل كسيوف وسكاكين ليقاتلوا الطلبة وعندما تتدخل الشرطة لمنع القتل يتهموا الحكومة بالاعتداء )
كان معظم المقابلة هي هجوم على الأخوان المسلمين وكأنه يوجه رسالة الى دول اخرى أن احترسوا ، يضيف في المقابلة قائلا (طلبة الإخوان تحدثوا عن كتائب ابن الفارض وعمرو بن العاص ) لذلك ( أغلقت الجامعة – يقصد جامعة الخرطوم والتي اغلقت في فبراير – لان بعضهم دخل في طور الخطورة ) كما ( قبضت على قادة الإخوان ومنهم حسن الترابي الذي كان يعمل مساعدا لي ) وكال هجوما على الدكتور حسن الترابي قائلا ( الترابي يعمل على انه متفقه وعالم وهو عالم في الواقع وكل شيء ولكنه يعمل في السياسة لا الدين ويريد أن يتداخل في الحكم )
وركز في هجومه على ما أسماهم الأخوان في النقاط التالية:
• الإخوان دخلوا سلك القضاء حتى يحكموا باسم الإسلام ويكرهوا الناس في الحكومة
• الإخوان اخترقوا بنك فيصل الإسلامي وضربوا البنك من الداخل وأصبحوا مليونيرات. اشتروا الذرة كلها في السوق (الطن 30 جنيه) وخزنوه حتي بييعوه للشعب ب 120 جنيه واشتروا الفول السوداني الذي يصنع منه زيت الطعام وزادت أسعاره لأنهم يريدون أن يخلقوا فوضى
• الإخوان خلقوا سوق اسود للعملة
ثم عرج في تعليقات سريعة على المظاهرات القائمة وهو يقول ( عند سفري خرجت مظاهرات صغيرة في جامعة أم درمان الإسلامية وهجموا على الأسواق والاكشاك الصغيرة وسرقوا الأموال وهجموا على جمعية تعاونية اسمها ود نميري تعمل في الترحيل وصيانة العربات )
ولم ينس ذكر النقابات ليقول ( ليس هناك نقابات في السودان وضبطنا خلايا من 13 طالب ومعهم مساعد أستاذ يمضوا منشورات نقابية ، النقابات انتهت بالقانون وهذه أشياء وهمية )
ثم كال هجوما عنيفا على الأحزاب ليقول ( ليس هناك معارضة حزبية في السودان بل هناك معارضة عميلة جبانة تقبض الأموال خارج السودان )
وفي خضم انفعاله لم ينس ايضا ان يهاجم الدول العربية الغنية وهو يقول ( العرب هم سبب عدم تحول السودان لسلة غذاء برفضهم الاستثمار في السودان )
ورغم انه وقبيل سفره صرح بأنه سيراجع القوانين والتشريعات والتطبيقات الاسلامية ولكنه عاد ليقول من واشنطون أن ( الشريعة الإسلامية قائمة في السودان و 40% من قوانين أوروبا مستمدة من الشريعة ) و أن ادارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ( لم تعترض على موضوع الشريعة )
هكذا صرح نميري قبل ثلاثة ايام من عزله وهكذا جرت الامور
في الحلقة القادمة سنتابع الشعب وقد خرج في مظاهرته المدوية في صبيحة نشر نميري لحواره المتفجر
تابعوني