
د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال
عاد العروسين من الحفل الى البيت، وذهب العريس لتناول الشاى مع والديه، بينما دلفت العروس الى غرفتها وتبعتها “الشاهدة”، بعد ان جهزت الاخيرة الفراش “الارضى” وثلاثة بشاكير بيضاء، واحد بحجم كبير وضعته فى الاعلى وتحديدا فى منتصف الفراش واثنان توزعا على يمين ويسار الوسادة…
وشرحت للعروس بانه عند فض العذرية ونزول الدم على البشكير فانها يجب ان تسرع ايضا وتستعمل احد البشاكير قرب الوسادة لمسح الدم ..
ومن ثم يجب على العريس ان يخرج مباشرة للحمام، لتتمكن الشاهدة من الدخول الى الغرفة وجمع البشاكير البيضاء التى عليها الدم ..واعادة المرتبة الى السرير وترتيب الغرفة وتنظيمها وتعطيرها.
وقد شرحت الشاهدة للعروس بانه عقب خروج العريس من الحمام، فانها سوف تأخذها اليه، لتساعدها فى الغسل الشرعى والوضوء استعدادا لاداء صلاة الفجر مع زوجها ومن ثم الدعاء لله تعالى لمباركة زواجهما.
عروستنا التى نحكى عنها ينحدر اهلها من جنوب اذربيجان، وولدت وترعرعت فى منطقة زاكاتالا فى شمال غرب اذربيجان، والان انتقلت اسرتها الى العاصمة باكو حيث انهت دراستها الجامعية، واثناؤها التقت بالعريس واحبته وتمت خطبتهما قبل عام مضى وكنت وزوجتى اينور ضيوف شرف حفل الخطوبة الرائع.
ورغم ان العريس تقيم اسرته فى العاصمة باكو الا انها لازالت تراعى تقاليد منطقة شاكى التى انحدرت منها..ويعتقد الاذر بان اهل شاكى “صعبين” ومعقدين! لذلك حاولت والدة العروس ان تنصحها بالابتعاد عن اهل شاكى دون جدوى، واخيرا انصاعت لرغبة بنتها بكل سهولة ومحبة.. فالاذر شعب سهل وليس صعبين المراس وراكبين راس كاهلنا فى السودان ..فقد يختلفوا ويصلوا الحد فى العراك والخصام ولكنهم سرعان ما يعودوا وكأن شيئا لم يكن، واختلاف الثقافات امر ليس سهل اطلاقا ويحتاج الى مرونه كبيرة ..
وتعرف الثقافة Culture ( بأنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة، والثقافة التي يكوّنها أيّ شخص يكون لها تأثير قوي ومهم على سلوكه، وتدلّ الثقافة على مجموعة من السمات التي تميّز أيّ مجتمع عن غيره، منها: الفنون، والموسيقى التي تشتهر بها، والدين، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم، وغيرها. )
وببساطة شديدة قد تختلف ثقافة اسرتك عن ثقافة بيت اختك او اخيك او جارك، مثلا قد يكون عندهم الغذاء الرئيسى هو الكسرة خصوصا فى وجبة الغداء، وبعدها الشاى مباشرة…ولكن فى بيتك فان الكسرة ليس غذاء معتادا، كما ان الشاى بعد الغداء حسب مفاهيمك امر غير مرغوب فيه وليس صحيا….وان بنتك ترتدى عادى بنطلون الجينز، بينما لدى بيت اخيك يعتبر ارتداء البنت للبنطلون “قلة ادب”، والامر السائد هو غطاء الراس “الطرحة” داخل البيت والثوب خارجه. وحتى طريقة الحديث والتعبير ..
فانا تربيت بان الكذب حرام ولا يجوز حتى للمزاح، لذلك وجدت صعوبة بالغة فى التعايش مع اسرة من الكذابين ..ويعتبر الامر عندهم “عادى” ومرحا وهزارا..
تصبح اول مشكلة تقابل اى زوجين هى كيفية ” التلاقح الثقافى” بينهما ..وهذا الامر ربما يكون اكثر صعوبة عند الزواج من بلاد اخرى “اجنبية” ..وحتى الصداقة، ولازلت اذكر اننى فى الويكند اثناء دراستى بانجلترا وبعد الحمام والجلابية والعطر عملت فنجان قهوة واشعلت بخور تيمان كارب ارسلته لى والدتى، وجلست اطالع المصحف واستمع الى القران الكريم، فدخلت على صديقتى الانجليزية حينها، دون ان انتبه، واسرعت تمسح بمنديلها دموعى، وتقبلنى فى خدى، وهى تقول: يالها من اغنية مؤثرة جدا يا عزيزى!
ايام دراستى الجامعية، كانت مادة ” السلوك الانسانى فى الادارة” او العلوم السلوكية، يطلق عليها الطلاب ” العلوم السقوطية” لكثرة الرسوب فيها وصعوبة فهمها ..بينما كنت استثناءا واحرز فيها اكبر درجة ..وانتقل الامر معى الى انجلترا حيث كنت استمتع جدا بدراسة:
Cultural Resistance to Change
ونشرح الامر بمثال بسيط جدا وهو مقاومة قريش للرسالة المحمدية ورفضهما التام لها بقولهم: هذا ما وجدنا عليه اباؤنا الاولين!
وقد جاء التعريف التالى فى بعض المراجع، لاحد صور المقاومة الثقافية:
( When people believe that their culture is superior to other cultures, they tend to resist any influence other cultures may bring ).
سامحونى بانى سرحت عن ليلة الدخلة وذهبت بعيدا الى حقل احببته كثيرا ومن ثم استمتع كثيرا عندما اجد مثالا حيا اسقط عليه بعض مما تعلمت وعلمت طلابى.
فان والدة العريس اتت بخالتها التى تثق فى حكمتها وخبرتها لتكون شاهدة على ان العروس “عذراء” والشهادة هى البشكير الابيض المكتوب بالدم… فان قامت العروس بتوثيق الشهادة على البشكير تحتها وبجانب الوسادة، فان صورة اصلية من الشهادة تذهب الى والدة العروس فى مراسيم سوف اتعرض لها لاحقا فى هذا الكتاب..
اما ان كان التوقيع فقط فى البشكير الذى على السرير، فيتم قسمته الى جزئين، يذهب احدهما الى ام العروس، ويبقى الثانى عند ام العريس.
امس اتصلت باينور والدة العروس واخبرتها بان الارهاق كان سببا فى ان يذهب العروسان الى نوم عميق ..وانتظرت “،الشاهدة” التى اطلقت عليها “حارسة الفضيلة”، حتى الى ما بعد اذان الفجر ولم يخرج احد من الغرفة مما يدل على تأجيل “المعركة” الى اليوم التالى.
اليوم وقبل قليل تلقينا اتصالا من والدة العروس وهى اقرب صديقات زوجتى اينور، اتصلت عبر الفيديو، وراينا وجهها منشرحا جدا، وقالت لاينور بانها غدا سوف ترسل الاكل لاهل العريس. فسالت اينور عن الامر فاجابتنى بان ذلك يعنى بان صديقتها قد استلمت صباح اليوم الشهادة موثقة من حارسة الفضيلة.
فان “حارسة الفضيلة”، بعد ان تستلم البشكير وتنتهى الاجراءات كاملة ويدخل العروسين الى غرفتهما وتبارك لهما.
تذهب مباشرة لام العريس لتسلمها الشهادة الموثقة بالدم، ومن ثم تمنحها ام العريس ” البشارة” وعادة تكون مبلغا من المال، وبعد ان تاخذ قسطا من الراحة، تذهب حارسة الفضيلة مباشرة وبصحبة قلة من النساء كبار السن من اهل العريس، الى بيت ام العروس لتسلمها الجزء الخاص بها من الشهادة، وتشيد باخلاق بنتها وتربيتها، فتقبلها ام العروس وتمنحها البشارة ايضا ..وقد اضحكتنى صديقة العروس “المفلسة” وهى تردد لاينور: ليتنى كنت الشاهدة ..وحصلت على المال من هنا وهنالك ..وضحكنا جميعا.
الخطوة الثانية بعد بشارة اليوم، هو ان ترسل ام العروس غدا الكثير من الاكل والحلويات مع مجموعة من نساء اسرتها الى اهل العريس، وتتوسط الماكولات ” الدلما” التى هى عبارة عن محشى بورق العنب او بالملفوف والبقلاوة ( الباسطة). وترسل معهم فى صندوق من القطيفة خاتما ذهبيا الى ابنتها ..وكأنها تقول لها وتشهد الجميع: شكرا ابنتى الحبيبة ..لقد رفعتى راسنا عاليا بحفاظك على عذريتك!
وبعد اسبوع يقوم اهل العريس بدعوة المقربين جدا من اسرتهم مثل العم والخال، واهل العروس الى الشاى والحلويات والمخبوزات والمكسرات، ويتكرر الامر عند اهل العروس بعد اسبوع اخر لمزيدا من التعارف والتالف بين الاسرتين.
بعدها يقوم الخال والاعمام والخالات والعمات والمقربين من الاصحاب بدعوة العروسين فى بيوتهم الى ولائم تستمر طويلا..
والمحزن ان غياب ” شهادة العذرية” يعنى مسيرة مع الطبيب، لمعرفة السبب ..وربما يؤدى هذا الطريق الى المزيد من الاحزان بدلا من الافراح ..
وقد تذكرت اليوم مقالا كتبه صديقى الفيلسوف المهندس الكهربائي علاءالدين محمد بابكر ..الذى دخل من باب الهندسة الى عمق الفلسفة ..واتانا مع شقيقه الراحل د. عماد محمد بابكر بكتابهما الشهير: ” اذان الانعام”..
يسال علاء فى مقالته عن معنى كلمة “الشرف” ..ويتوقف كثيرا عند “العذرية” ومعناها?
وقد كنت اعتقد ان هذه العادات والتقاليد قد اصبحت من الماضى ..الا ان وجدتها حاضرة فى اذربيجان التى كانت جزء اصيل من المنظومة الشيوعية، وفى وسط عاصمتها نجد تمثالا لامراة تحررت من جميع القيود فى اعتقادهم ..وبدات بخلع الحجاب اولا..
د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال
* كانت اذربيجان وحتى مطلع التسعينات جزء من الاتحاد السوفيتى وتأثرت بالشيوعية فى كافة مناحى الحياة واصبح الدين الاسلامى الذى يعتنقه سكانها جزء من التراث الثقافى “المرفوض” من الثوار الجدد المنتمين للماركسية، وخصوصا فى المناطق الحضرية حيث يرتفع فى احد اشهر ميادين العاصمة الاذربيجانية باكو تمثال
Statue of a Liberated Woman
يرمز لتحرر النساء وخلع الحجاب الذى يعوق التحرر والتقدم والمساواة فى نظرهم وقتها ..والتمثال تم نصبه فى عام 1960 وهو من اعمال النحات الشهير فؤاد عبدالرحمانوف..
صورة التمثال مرفقة فى اليسار، وعلى اليمين صورة امراة باللباس التقليدى.