مقالات

إعدام محمود محمد طه

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت ،،، وهكذا انتصرت

الحلقة الحادية عشر: اعدام محمود محمد طه

 

بقلم / بابكر عثمان

بعد يوليو 1976 وهي السنة والشهر الذي جرت فيه أكبر مواجهة بين نظام نميري ومعارضيه، لاحظ عدد كبير من المراقبين ان نميري اتجه بعدها الى تبني توجهات إسلامية واخلاقية معينة، فألزم في عام 1978 مساعديه ببرنامج اطلق عليه (القيادة الرشيدة ) حيث اقسم وزراء ومسؤولون على عدم تعاطي الخمر وغيرها مما يقدح في النزاهة الشخصية ، كما ان الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي اقرت توجها لتطبيق الشريعة الإسلامية عام 1982

ولوحظ ان الرئيس نميري أصدر عددا من الكتب بإسمه منها كتاب (النهج الإسلامي.. لماذا) و(النهج الإسلامي .. كيف) وتبين فيما بعد أن هذه الكتب حررها المستشار الصحفي في رئاسة الجمهورية محمد محجوب سليمان وهو صحفي سوداني قضى شطرا كبيرا من حياته في مصر قبل ان يأتي الى السودان عام 1970 ، صدرت هذه الكتب في الأعوام بين 80 – 1984 .

في السنوات العشر الأولى من حكم نميري كانت العلاقة بين النظام والأخوان الجمهوريين ( سمن على عسل ) اذا جاز التعبير ، كان محمود محمد طه يجلس في منزله رقم  242 بامدرمان الثورة الحارة الأولى ، ويبث أفكاره وتعليقاته السلمية بينما تلاميذه يناطحون الجماعات والتيارات الإسلامية في الجامعات وخصوصا جامعة الخرطوم ، كما يتصدون لمناوئيهم بإصدار كتيبات صغيرة يشرحون فيها أفكارهم ويدحضون أفكار غيرهم ، كان الاخوان الجمهوريون جماعة صغيرة مسالمة تكره العنف وتنشر أفكارا تتضمن تفسيرا خاصا للإسلام ، وكان يمكن اعتبار مثل هذه الأفكار والتوجهات جزءا من الحراك السياسي والثقافي والفكري في ذلك الوقت لولا نشؤ حالة من التطرف السياسي التبست رأس النظام في السنوات الخمس الأخيرة قبل انتفاضة مارس – ابريل 1985 والتي أطاحت بالنظام.

وبدأت أولى المواجهات بين الجمهوريين ونظام نميري في مايو عام 83 ، عندما اصدر الأستاذ محمود محمد طه كتابه المعنون ( الهوس الديني يثير الفتنة ليصل للسلطة ) فلم يصبر النظام علي ما جاء في ذلك الكتاب من نقد ، فاعتقل محمود محمد طه في ٩ يونيو ٨٣ ،ومعه عدد من تلاميذه

ولكن وفي ذلك الشهر نفسه (يونيو 1983 ) نشب نزاع بين الرئيس نميري والهيئة القضائية على مسائل تتصل بتأخر البت في القضايا بالمحاكم وجرت خلاله مناوشات كلامية صدرت عن الرئيس حيث هاجم نميري القضاة ووصفهم “بالتسيب” و “انعدام الأخلاق” وقام بطرد عدد منهم من الخدمة وجاء رد القضاة بتوقف جماعي عن العمل.

كان يمكن لهذه الأزمة ان تنتهي هاهنا ولكن نميري أرادها مواجهة مفتوحة مع الهيئة القضائية ، فقام بطرد عدد من القضاة ، وحاول ملء الفراغ بإعادة قضاة متقاعدين الى العمل او جلب قضاة من مصر ولم تتوقف محاولة قهر القضاة في هذا المنحنى ولكنه اعلن ما أسماه “بالثورة القضائية” و “العدالة الناجزة” وتمثل ذلك في اصدار عدد من القوانين الجديدة تم نشر نصوصها للعامة بالصحف المحلية ووصل عددها الى ثلاثة عشر قانونا كان أبرزها قانون العقوبات الذي اشتمل على العقوبات الحدية، وهكذا ولدت التشريعات الإسلامية التي عرفت بقوانين الشريعة الإسلامية عند مؤيديها، أو بقوانين سبتمبر عند معارضيها. وبدأت هذه الثورة القضائية في 8 سبتمبر 1983

عارض هذه الخطوات عدد من الشخصيات العامة منهم السيد الصادق المهدي، كما عارض تطبيقها أيضا عدد من القضاة منهم القاضي الدكتور يوسف عبدالله الطيب وكان وقتها رئيسا لمجلس قضاة في محكمة جنايات ام درمان وسط، وقد دفع هذا القاضي الشجاع ثمنا باهظا لهذا الموقف بإحالته أولا للتحقيق) لأنه كان يكتفى بتوقيع عقوبات تعزيرية، بدلا عن احكام القطع أو الجلد وكتب عند التحقيق معه أن توقيع تلك الاحكام يخالف ضميره ولاحقا اكتفى رئيس القضاة في الخرطوم بفصله عن عمله.

يقول الصادق المهدي انه التقى بالأستاذ محمود محمد طه وتلاميذه خلال وجودهم معه في سجن كوبر وقد نصحهم بعدم كتابة آرائهم على الورق لأنه يعرف ان النظام انما يبحث عن ادلة مكتوبة.

قضى المهدي نحو ثمانية عشر شهرا، لم يخرج من المعتقل إلا في فبراير 1985، اما محمود محمد طه فقد قضى أيضا في المعتقل نحو ثمانية عشر شهرا حيث أطلق سراحه وتلاميذه في 19 ديسمبر 1984 ولكن بعد أيام معدودة، اصدر الأخوان الجمهوريون بيانهم ذائع الصيت ( هذا أو الطوفان ) وحسب الدكتور عبدالله الفكي البشير ، الاكاديمي وصاحب مشروع بحثي مفتوح ومستمر محوره وموضوعه الفهم الجديد للإسلام والسيرة الفكرية لصحابه محمود محمد طه ، فقد أعلن البيان بأن قوانين سبتمبر 1983 ( شوهت الإسلام وأساءت إلى سمعة البلاد. فهي قوانين جائرة ومخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، وأذلت الشعب، وأهانته، وهددت وحدة البلاد، وأثارت الحساسية الدينية، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الجنوب.)

ويبدو ان ما حذر منه المهدي قد وقع بالفعل، فقد أعاد النظام اعتقال محمود محمد طه وأربعة من تلاميذه بعد صدور ذلك البيان بنحو عشرة أيام ففي 5 يناير 1985 تم إحالة محمود محمد طه وأربعة متهمين آخرين الى المحكمة بعد ساعات معدودة من الاعتقال وذلك بأوامر مباشرة من رئيس الجمهورية.

عقدت المحكمة الجنائية الرابعة جلستها الأولى في 7 يناير 1985 برئاسة قاضي اسمه حسن إبراهيم المهلاوي، وكان المتهمون الخمسة وبينهم الأستاذ محمود محمد طه يواجهون تهمة رئيسية تحت المادة ٩٦ (اثارة الكراهية ضد الدولة) حيث لم تكن الردة منصوص عليها في قوانين سبتمبر، إضافة الى تهم أخرى تحت المواد 27 (أ) عقوبات، 96 ك، 105 أ عقوبات، 20 (أ) من قانون أمن الدولة لسنة 1983 والمادة 3 من قانون أصول الأحكام القضائية، و رفض الأستاذ محمود محمد طه التعاون مع المحكمة وهي نفس المواد التي عارضها وقال أمام المحكمة كلمته المشهورة من أن هذه القوانين وضعت ( لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم انها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فان القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا.. وضعفوا أخلاقيا عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستعملهم لإضاعة الحقوق، وإذلال الشعب، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين.. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين”.

وفي اليوم التالي 8 يناير 1985 اصدر قاضي المحكمة (المهلاوي ) الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت على المتهمين الخمسة- ما لم يتوبوا ويرجعوا عن دعوتهم حتى تنفيذ الحكم، على أن يرفع الحكم لمحكمة الاستئناف للفحص والتأييد ويبقى المتهمون بالسجن.) يقول الدكتور عبدالله الفكي البشير في كتابه

المعنون الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف ، تعليقا على ذلك ( لقد كانوا في عجلة من أمرهم (

ما فعلته محكمة الاستئناف لاحقا وهي محكمة يرأسها قاضي ( المكاشفي طه الكباشي ) تم اتهامه لاحقا من قبل المحكمة العليا بالجهل والانحياز فهو أمر لم يخطر على بال نميري او مساعديه انفسهم ، ففي ظرف أسبوع عقدت المحكمة جلسة وحيدة عدلت فيها الحكم من المادة 96 ( اثارة الكراهية ضد الدولة ) الى الردة بناء على حكم قديم من احدى المحاكم الشرعية لعام 1968 واستنادا على بيانات صادرة عن منظمات إسلامية عربية ( فيما بعد اعتبرت المحكمة العليا هذا الحكم باطل ) ولكن نميري وفي سابقة غريبة صدق على حكم الاستئناف دون ان يسمح للمحكمة العليا بأن تنظر في ذلك الحكم و في اليوم التالي مباشرة 18 يناير 1985 نفذ حكم الإعدام في رجل بلغ حينها السادسة والسبعين من العمر ( القانون السوداني يمنع تنفيذ الإعدام فيمن تجاوز السبعين من عمره )

لم تمض سوى أسابيع قليلة قبل أن يلغى نميري تلك المحاكم سيئة السمعة (محاكم التفتيش السودانية) ولكن تلك المحاكم حطمت نحو 200 شخص بقطع أيديهم وجلدت واهانت الآلاف، أما محمود محمد طه – غض النظر عن آرائه الدينية – فقد فقد حياته لأنه وقف بشجاعة امام سلطان جائر.

في الحلقة القادمة ، سننظر في الأوضاع العسكرية قبيل تفجر الأوضاع في الشارع السوداني وتفجر الأوضاع في احراش الجنوب

تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى