مقالات

انتفاضة 1985 هكذا بدأت ،،، وهكذا انتصرت

الحلقة السادسة – وكالة الاستخبارات الأمريكية تتنبأ بقرب زوال نظام نميري 

بقلم / بابكر عثمان
يلاحظ المراقب للأوضاع السياسية في السودان خلال السنوات الثلاث السابقة لسقوط مايو أن الرئيس نميري بدا هو الرجل الوحيد المتحكم في كل مفاصل السلطة وان من حوله مجرد كومبارس ، فيما تشتت أحزاب المعارضة خصوصا بعد دخولها مع النظام فيما اطلق عليها ( المصالحة الوطنية ١٩٧٨ ) ثم خروج الصادق المهدي سريعا من تلك المصالحة بعد رفضه لاتفاقيات كامب ديفيد ( اتفاقية المصالحة المصرية الإسرائيلية ١٩٧٩) بينما بقي ( الإخوان المسلمون ، جماعة الدكتور حسن الترابي ) مع النظام فيما يشبه التقية ( ظاهريا مع المصالحة وباطنيا ضد النظام ويعملون علي تقويضه ) وفي ذلك العام تشكل التنظيم السري للإخوان المسلمين والذي يضم عددا من الكوادر وضعت خططا للاستيلاء على السلطة و اطلق الدكتور عبدالوهاب الأفندي على ذلك التنظيم تسمية ( سوبر تنظيم ) حيث أصبحت الجماعة تضم أعضاء ظاهرون يشكلون فيما يشبه ( ضباط العلاقات العامة ) وأعضاء سريون ( سوبر تنظيم ) وهم المتحكمون في خطط و توجهات التنظيم ( السودان والإصلاح السياسي د.عبدالوهاب الأفندي ١٩٩٥ )
فالرئيس نميري ( المضطرب عقليا ) حسب توصيف السفير الآمريكي له في برقية أرسلها الي وزارته عام ١٩٧٥ بسبب الضغوط السياسية والأمنية الضاغطة بدأ يتصرف في مطلع الثمانينات بردود الفعل علي نحو غريب، فصراعه مع القضاة في عام ١٩٨٣ اسفر عن تبنيه لقوانين جديدة اطلق هو عليها قوانين الشريعة الإسلامية بينما اطلق عليها المجتمع ( قوانين سبتمبر ) فيما أدى استفحال الصراع الى اطلاق برنامج العدالة الناجزة حيث اعلن حالة الطواري في ابريل ١٩٨٤ وشكل محاكم الطواري ففقد عدد كبير من الرجال اطرافهم وتم جلد عشرات النساء والشباب بدعوى الفسوق الأخلاقي وبات مرافقة الرجل لزوجته او اخته في الشارع محفوف بالمخاطر.
وفي الجانب الآخر ادي تطبيق اتفاقية اديس ابابا ١٩٧٢ والتي منحت الجنوب حكما ذاتيا الى تشكل جنوب يتجه نحو الديمقراطية وحرية التعبير بينما يتعذب الشمال تحت نير الاستبداد وطغيان الفرد ، ولكن لم يكن ذلك هو السبب الذي ادي بالرئيس نميري الي تمزيق تلك الاتفاقية وإعلان تقسيم الجنوب الى ثلاثة أقاليم في مايو عام ١٩٨٣ انما تكمن الأسباب الرئيسية في هذا التحول الي اكتشافات أولية للبترول في الإقليم الجنوبي ، كما ان الجنوب الموحد بدأ يشكل خطرا حينها على مستقبل وحدة السودان من وجهة نظر ضباط الاستخبارات العسكرية ، إضافة الى تنامي معارضة قوية ضد تنفيذ مشروع قناة جونقلي
أدت كل هذه المخاوف غير المبررة الى تمزيق اتفاقية اديس ابابا و اشتعال الحرب الأهلية في جنوب السودان مجددا و حسب وثيقة أمريكية تم الكشف عنها في عام ٢٠١٧
ففي شهر نوفمبر من عام 1983، اشترك محللون من وكالة الاستخبارات المركزية مع زملاء لهم من استخبارات الجيش واستخبارات قوات البحرية واستخبارات القوات الجوية، لتقييم الوضع في السودان بعد أن أصدر الرئيس نميري في ذلك الوقت عددا من القرارات المثيرة للجدل، التي اعتبرتها الاستخبارات الأميركية مؤشرا خطرا لقرب زوال حليف مهم للولايات المتحدة في جزء مهم من العالم.
وخرجت الوكالات الاستخباراتية الأربع بتقييم وضع مؤلف من تسع صفحات تنبأت فيه بقرب سقوط نميري، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عامين على صدور التقرير.
ومن غير المعروف ( حسب تحليل لجريدة الشرق الأوسط التي ترجمت ونشرت الوثيقة ) عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية قد أبلغت نميري بما هو مقبل عليه أثناء وجوده في واشنطن، أو ما إذا كان لديها معلومات محددة عما يخطط ضد الرجل، ولكن توقعات محلليها كانت تستند إلى أسباب أخرى قد لا يتفق معها أو في أجزاء منها الكثير من السودانيين الذين يدركون أكثر من غيرهم الأسباب المباشرة لسقوط نميري، ومع ذلك فإن الأسباب التي اعتمد عليها المحللون الأميركيون تستحق التأمل، خصوصا ما اعتبرته الاستخبارات الأميركية أخطر قرارين اتخذهما نميري في عهده، وأدت تداعياتهما إلى سقوطه ، فقد أجمع محللو الوكالات الأربع على أن أكثر قرارين إثارة للجدل ، هما إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، وتقسيم جنوب الموحد إلى ثلاثة أقاليم ، ورصد عملاء الاستخبارات الأميركية في الخرطوم مؤشرات التذمر في وقت مبكر؛ الأمر الذي دفع المحللين المسؤولين عن فرز المعلومات وتحويلها إلى استنتاجات جاهزة تقدم إلى مراكز اتخاذ القرار الأميركي، الذي يمكنه إشراك الحليف المعني بما لديه من معلومات إذا ما أراد ذلك.
ويجزم المحللون الأميركيون، في ذلك الوقت، بأن نطاق المشكلات التي باتت تواجه النميري، ستتسع، وأنه مقبل على تحديات هي الأخطر على نظامه منذ استيلائه على السلطة عام 1969.
فيما يلي ابرز ما ورد في ذلك التقرير الاستخباراتي المثير
( أصدر النميري عددا من القرارات المثيرة للجدل العام الجاري، مثل الكثير منها تحديا خطيرا لمنصبة. كان أهم تلك القرارات إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نهاية لوضع جنوب السودان باعتباره حالة خاصة أو منطقة مستقلة، ومن ضمن أسباب المشكلات أيضا المحاولات الفاشلة لنقل قوات عسكرية من الجنوب للشمال. غير أن تلك الخطوات قوبلت بالرفض من الكثير من السودانيين، وبخاصة في الجنوب، وربما دفعتهم إلى القيام بأنشطة معادية للنظام. غير أن جدية النميري في تطبيق الشريعة الإسلامية وإجراءاته المستقبلية تجاه الجنوب هي ما ستحدد رد الفعل تجاه سياساته. كذلك، على النميري أن يثبت للأعداد المتزايدة من المتشككين أنه بالفعل يمتلك القدرة والكفاءة على قيادة البلاد.
يعد جنوب السودان، غالبية سكانه من المسيحيين، الأعلى صوتا بين معارضي تطبيق الشريعة الإسلامية. وتسببت الإجراءات الحكومية في إحياء المخاوف القديمة من إحياء الهيمنة والتمييز العنصري من قبل الشمال المسلم. وعارض الكثير من القادة الجنوبيين، ومنهم من ساند النميري في سياساته في المنطقة في بداية حكمه، التحول إلى النمط الإسلامي. وفي أكتوبر شارك آلاف عدة من الجنوبيين مسيرات احتجاجية بمدينة جوبا ضد القوانين الجديدة.
وشعر الكثير من الشماليين، حتى غير المتدينين، بقلق من تطبيق الإجراءات الجديدة، بيد أن اعتراضهم لم يتخذ شكلا عاما، وشملت الفئات الرافضة للنهج الجديد فئات من السودانيين العلمانيين، بعضهم في القوات المسلحة والمخابرات وأجهزة الأمن، وفي المستويات العليا في الجهاز المدني للدولة، وحتى المعارضة الهادئة استشعرت ضعف موقف النميري.
أبدت حكومات شقيقة للسودان بقلق من أن تتسبب حملة النميري لتطبيق الشريعة الإسلامية في إثارة القلاقل السياسية له، حيث ينصح أشقاء النميري العرب بإيجاد حكومة معتدلة في السودان. وقد شعر القادة المصريون بالغضب من عدم استشارة النميري لهم قبل الشروع فجأة في تطبيق الشريعة الإسلامية، بيد أنهم التزموا بمواصلة الدفاع عن السودان ضد أي اعتداء خارجي بالقوة نفسها.
وأكد نميري أيضا على الدور الكبير للشريعة الإسلامية في سياساته المقبلة. ومن شأن الإجراءات الجديدة، مثل تعيين قضاة إسلاميين في الجنوب، أو تشكيل هيئات استشارية إسلامية تابعة للحكومة أن تساهم في تفاقم الأوضاع.
مشاكل في الجنوب
– وصف قرار النميري في يونيو لتقسيم الجنوب إلى ثلاث مناطق صغيرة بصفته جزءا من برنامج يغطي الدولة بالكامل لتوزيع صلاحيات الحكومة المركزية وجعل الحكومات أكثر استجابة وقدرة على التنفيذ. بيد أن الخطة لقيت اعتراضات من قبيلة «الدينكا»، أكبر قبائل الجنوب، والتي تحكم سيطرتها على الحكومات بمختلف المناطق هناك منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1972. في حين رأت القبائل الأصغر من «الدينكا» الإجراءات محاولة من النميري لزرع الفرقة بتقسيم البلاد ليسهل له حكمها.
– حلت سلسلة من أحداث العنف بجنوب السودان عام 1983، ومن المحتمل تدهور الأوضاع هناك في الشهور القليلة المقبلة، وربما يتعرض الأميركيون والمصالح الأميركية هناك لهجمات عن طريق جماعات جنوبية منشقة، وسيصبح من الصعب تحديد المسؤول عن الهجمات الفردية في الجنوب.
– وإثر محاولات النميري فصل الجنوب، وبعد محاولات الحكومة إجبار بعض القوات الجنوبية على العمل في الشمال، حاولت المعارضة الشمالية تنظيم صفوفها في مواجهة النظام، واجتمع بعض الساسة الجنوبيين المعارضين وقادة الفصائل المنشقة والضباط الجنوبيين في إثيوبيا، وشكلوا جبهة جنوبية متماسكة في مواجهة النظام، ناهيك عن بعض الطوائف التي شرعت في إعادة تنظيم صفوفها، وكذلك المتمردون.
– كانت ليبيا وإثيوبيا على إدراك بحالة الهياج التي تسبب فيها النميري في الجنوب، وربما يرون الوضع الراهن فرصة ممتازة لزعزعة استقرار الحكومة السودانية.
– بات واضحا أن القوات المسلحة والشرطة السودانية غير مهيأين للتصدي لأي عمليات انشقاق بعد أن تراجعت معنويات المقاتلين إثر عمليات التبديل والإحلال التي تمت بإرسال مقاتلي الجنوب إلى الشمال بداية العام الجاري.
– ربما دفع تفاقم أحداث العنف في الجنوب الحكومة في الشهور القليلة القادمة إلى إرسال المزيد من القوات الشمالية، وهي الخطوة التي قد تسبب مشكلات في ظل حساسية الجنوبيين من تواجد القوات العربية على أرضهم.
الوضع الاقتصادي
– زادت الأزمات الاقتصادية من مشكلات السودان السياسية والأمنية. فبسبب قلة التمويل، باتت الحكومة عاجزة عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2 في المائة في العام المالي المنتهي في يونيو 1983. ورغم النجاح الذي حققته الحكومة في السيطرة على الموازنة العامة والعجز، فقد ارتفع معدل التضخم ليبلغ 41 في المائة.
– بلغت ديون السودان الخارجية 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الناتج المحلي لعام كامل، ولكي يسدد السودان ما عليه من التزامات مالية للدائنين، كان عليه أن يدفع نحو مليار دولار سنويا فوائد على الديون، وهو مبلغ يفوق إجمالي صادراته السنوية.
– يتعين على السودان الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا لكي تكون مستعد للوفاء بمتطلبات الصندوق عام 1984، لكن لتجنب التخلف عن التزاماته لسنوات. لكن فرص إجراء تغييرات هيكلية تحتاج إليها البلاد على المدى البعيد لكي تتعافى اقتصاديا باتت باهتة
أهمية السودان ونظام النميري للولايات المتحدة
1- يعد السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، ويحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وفي السنوات الأخيرة لعبت حكومة الرئيس جعفر النميري دورًا مهمًا في دعم جهود الولايات المتحدة لمنع تمدد النفوذ الليبي والسوفياتي في المنطقة، وكذلك في حماية طريق إمداد الولايات المتحدة باحتياجاتها النفطية.
2- وفي مارس 1981، عرضت الحكومة السودانية السماح للولايات المتحدة استخدام القواعد العسكرية السودانية، حيث وافق السودانيون العام الجاري رسميًا على السماح للولايات المتحدة بنشر معدات تابعة للقيادة العسكرية الأميركية بميناء بورت سودان، وكذلك سمح النميري بنشر طائرات «بوينغ» بميناء الخرطوم الجوي خلال فترة الأزمة مع تشاد الصيف الحالي.
3- ساند النميري الأهداف السياسية للولايات المتحدة في المنطقة، منها اتفاق كامب ديفيد، وفي سبتمبر 1982، دعم مبادرة السلام الأميركية في الشرق الأوسط. في السودان استثمارات أميركية خاصة كبيرة، حيث يعمل عدد كبير من الشركات النفط الأميركية في مجال الاستكشافات وتنمية قطاع النفط في السودان.)
وهكذا تنبأت وكالة الاستخبارات الأمريكية بأن أيام الرئيس نميري في السلطة باتت معدودة
في الحلقة القادمة ، نكشف عن عدو جديد لنظام نميري وهو حراك النقابات
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى