أعمدة
أخر الأخبار

 شمس الدين..من الإنقلاب إلي الثورة ضدَ الإنقلاب

 شمس الدين.. من الإنقلاب إلي الثورة ضدَ الإنقلاب 

بقلم/محمدعكاشة 

 

لم يشهدِ السُودانُ في تاريخهِ الحديث حَالةُ عنافةٍ بالغة مِثلما حدثَ خلال سنواتِ نظام ( الإنقاذ ) الذي ابتدرَ مسيرةَ حُكمه بإعدام خِيرة الضباط في شهر رمضان 1990م فضلاً عما حَفلت بهِ سُجلاتُ حقوق الإنسان من إنتهاكاتٍ جسيمة وتعذيبٍ وحشيّ في مخافرِ جهاز الأمن و( بيوت الأشباح ) إلي جانب عملياتِ الإبادة الجماعية لمواطني إقليم دارفور.

البيتُ الكائنُ بوسطِ الخرطوم شارع الحرية غربٰ عمارة الضرائب مُباشرة كانَ داراً للهيئة القومية للكهرباء قبلَ أن يتطاولَ بالبنيان.

مُنتصفُ ثمانينيّات القرن الماضي إبانَ حُكومة الديمقراطية كنتُ أغدو إليه صُحبة بعضُ طلبة الجامعات الذين وفدوا من تلقاء قرية ( العقيدة ) غرب شندي وبعضِ القُري المجاورة لها.

تربطُني بهؤلاء جامعةُ ( الجعليين ) خُصوصاً ( مسلماب ) قريةُ العقيدة ورغمَ النقاشِ الموضوعي حول مبحثِ هُويّة السُودانيّين إلا أن أبناءَ “عرمان”  تأخذُ الأوابدُ التاريخية بأم رأسهم تُقيّدهم بمكانةٍ تزعمُ اتصال نسبهم طُراً إلي سيّدنا العباس بن عبد المطلب ومع حفظِ مكانةِ الرجل وسابقتِه في الإسلام إلا أنه بحسبِ رُواة سيّر الصحابة كان ( قابضَ  اليد قليل الولد ) والجعليّون تستوي ( الشكرة ) عندهم بالكرمِ وإتلافُ المال في مَظّانه وفي غيرِ مظّانه والتباهي بالتكاثُر وإنجابِ الولد خُصوصاً الذكور.

دار الهيئة القومية للكهرباء كان مُشرفاً عليه عمنا ( الضيف ) وهو رجلٌ كريم قامَ يسعي من غرب شندي في وقتٍ باكر نحو العاصمة يكدحُ بلا إمتراء ويعملُ بلا كلالة في كل مجال ثم قد صارَ قِبلةً لأهله الجعليّين يعودونهُ حيثما كان ويطربُ لمقدمهم بالبشر والترحاب ويُكرمُ وفادتهم وكانت غُرفته بالدار ملتقيً لأبناء بلده.

في تلكَ الأيامُ يستلفتُ النظرَ شابٌ هادئٌ وقور.. غَضيصُ الطرفِ..ضئيلُ الجسم ناحلُه.

 أجدُه تحت شجرةٍ في الدار مُنكباً علي كُتبه يقرأُ ولا يحفلُ كثيراً بالقادمين إلي الضيف من غيرِ أهله إلا في حدودٍ ضيقة غير أنُه كان كثيرَ الابتسام حين يتَسرد الحديث عن قرية العقيدة أو فرعِهم بحلة حسن بودمدني ثمَ هو دائماً ما يفزعُ إلي الصلاة لوقتها.

سألتُ الضيف عنه ذات مرة ليخُبرني بأنه ابن أخته في ( الحساب ) ثم هو يقومُ لتعريفي به..الشاب يردُ التحية بالتأكيد علي أنهُ يعرفُني مُسبقاً بقوله:- ( إنت ودناس شيخ الزين ) وشيّخُ الزيّن هذا هو جَدي وصاحبُ الخلوة والديوانُ المعروف بحي العباسية الأمدرماني ليبلغُني حِينها أنُه أقامَ بين ظهرانينا حيناً من الدهر قريباً من أهل الحاجة جداوية موسي.

ذاكَ الشابُ مما علمتهُ لاحقاً بأنه كانَ ضابطاً بالجيش ولقد تمت إحالتهُ للمعاش لاتهامه بالإشتراك في إنقلابٍ عسكري ثم هو يعود لمواصلة دراسته بجامعة القاهرة الفرع.

اختفي الشاب إختفاءةً عن دار الهيئة لبضعةِ أشهرٍ لم يستغربهُ أحد ثم بعدَ حين نزور عمنا الضيف بعد أسابيعَ من إنقلاب البشير لنلفاهُ في دهشةٍ بأن ابن أخته هو ضمنَ هؤلاء الانقلابيين وعلي الرُغم من أن أعضاء مجلس قيادة الإنقاذ كانت صُورهم وسيّرهم مبذولةٌ في الصُحف إلا أني لم أدقق بين شخصيِة الشاب الذي كنتُ ألتقيه في عُمامة وجُلباب وذاكَ في بزته العسكرية.

الرجلُ في ثوبه الجديد يُخيب ظننا بدعوته لجُلساء الضيف بدار الكهرباء وأبناء عُمومته وشخصي لتناولِ الإفطار الرمضاني معه بمنزلهِ بحي المطار جهة القيادة العامة.

لم يكُ ليختلفَ كثيراً عن حالتهِ قبلَ عامٓ في بساطتهِ وكرمه وهو يطربُ للحديث حول ودضحوية وبطولات مَحرقة المتمة ورواياتُ الطيب محمد الطيب ومباحثهُ حول أصول السودانييّن.

في ذاكَ الإفطار مضيتُ إلي جرجرتهِ حول السياسة والوضع الراهن غيَر أنهُ كان يتغاضي عن الإجابةِ بطريقةٍ لطيفة ويومها حدثتني والدته عن مخاطِر الطريقِ الذي سلكَ وعما يُحدثهُ به قلبُها.

غبتُ عن السودان لبضعة أشهر في قاهرة المعز وعُدت لتجمعني بالرجل إحدي مُناسبات ( العقادة ) وكانَ ذاكَ بُعيدَ إعدامِ ضُباط رمضان بأيامٍ قليلة وحينها كان الاتهامُ يتوجهُ إليه بصورة مباشرة.

الرجلُ هو الرائد ابراهيم شمس الدين أحدُ الشخصيّات الهامة في حُكم ومسيرةِ الإنقاذ وينُسبُ إليه مُعظم الفظائعِ التي ارتُكبت بحق الخصوم والمُعارضين فهو كان من ( أرباب ) العقائد حول جمهورية السودان الإسلامية و( إمامة ) الشيخ حَسن الترابيّ وقضي بحماستهِ نتيجَة غَدارةَ ( إخوان ) التنظيم.

مقتلُ شمس الدين ينضافُ إلي سلسلة عمليات التصفيةِ الجسدية التي استمرت منذ اغتيال الدكتور علي فضل ولم تستثني حتي الاسلاموييّن مثلُ أبناء الفشاشويا ودكتور الجعلي المُشاركين في مُحاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس بل ولقد كادَ يلحق بهؤلاء العميد ودابراهيم ولم تكُ تشفعُ له رمزيته الروحيّة للدبابين والسائحينَ وكتائبُ الظل والمُجاهدين وكذا د.غازي صلاح الدين وحسن رزق وإخوانهم بحسبِ ماكشفتهُ قناة العربية وهي تبثُ حديثَ علي عُثمان طه في اجتماعاتِ الحركة الإسلامية في هذا الخُصوص.

ابراهيم شمس الدين كانَ أكثرَ المتُشددين وكان يعتقدُ بأنه يحتكرُ الحقيقة فَذّاً ولقد ظل مُمسكاً بملفاتِ الجيش وحرب الجنوب وقبُول الطلبة الحربيين للكلية وفقَ معيارِ الانتماء للتنظيم ولقد استطاع جذّب ولاء الضباط بدءاً من الدفعة 40 وهو ما أثار حفيظةُ الكثيرين وقلبوا عليه ظهرَ المِجن ومما لاشك فيه أنه كان بصددِ القيام بعملٍ ثوري ظَنهُ تصحيحاً لمسارِ الإنقلاب وفقَ تصوره ومُعتقده ولكن ( حدث ما حدث ) والروايات الملهوجةُ حول سقوط طائرتهِ مُتداولة.

ابراهيم شمس الدين وغَض النظر عن الموقف منهُ فقلد قضي معه بالطائرةِ عددٌ من قادة الجيش ومعظمُ هؤلاء ليسوا شركاء في مظالمِ النظام ومثلهُ من قضي في طائرة الزبير محمد صالح وهو ما يتطلبُ فتحُ هذه الملفات بين يدي المسعي لردِ المظالم والحقوق حتي يَستبينَ الناسُ الخيطَ الأبيضُ من الخيطِ الأسود.

صحيفة المواكب

الإثنين 29مارش2021م

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى