برعي محمد دفع الله: شيخ الملحنين السودانيين

بقلم صلاح شعيب
كنا حين نلمحه في حوش الإذاعة، أو في حي بانت بأمدرمان، ندرك أنه صنو الصمت الرزين الذي يتجول في عرصات تلك الأمكنة التي كان يرتادها. إلى ذلك، كانت قدماه تترفقان بسطح الأرض حين يغدو ويروح. وحاله هكذا تميزه سرعة معقولة في السير فيما يخفض رأسه، ولا يرفعه إلا ليتحسس صحة طريقه. كان على المستوى العام متواضعاً بامتياز بينما الكبرياء الفني يجلله. ويكاد الخجل أن يكون سمته كما لاحظت أثناء حوار جمعني وإياه، وشهدت في عينيه خجلاً دفيناً.
والحقيقة أنه حق لموسيقارنا الوسيم، والأنيق مظهراً، أن يتواضع. فقد ملك سمعة موسيقية نادرة بسبب نضارة الميلوديات الطروبة التي منحها للفنانين أولا ثم لكل الناس. وما ناله صاحب مقطوعة (فرحة شعب) الشجية من تقدير، وتقييم رفيع، واعتراف عظيم بما أنتج من ألحان لم يتأت لأحد من مجايليه من الموسيقيين. إذن كان تواضعه ذاك معبراً لما ملك من عطاء موسيقي مشحون بالسودان.
والجدير بالذكر أنه لم يقف الخيال اللحني لمؤلف (المروج الخضراء) عند إنتاجه، وإنما فتح الخيال لكل الأجيال المتعاقبة ليفردوا أشرعة التفنين، وإسعاد السامعين. وإذ إن أعماله بهذه المتانة التركيبية فإنها تتجلى تناصاً في المآثر اللحنية للذين أتوا بعده من كبار الملحنين، منهم حسن بابكر، وبشير عباس، وعبد اللطيف خضر، ومحمد سراج الدين، والفاتح كسلاوي، وعمر الشاعر، وهناك بعض كثير.
والحال هكذا، لا يمتلئ المرء بالتعجب حين يرى بعض أركان الجيل الجديد من المغنواتية، وهم يدخلون خشبة المسرح الغنائي محمولين على الكراسي الفخيمة، مملوكية الطابع. ولا يزداد تعجبنا أيضا حين تتأثر إعلامية معروفة، وظيفتها تنشد تعليم وإعلام الأجيال، وحثهم على التواضع، بهذا السلوك المشين. إذ هي توظف ذات الكراسي لتفجع الناس بالسلوك الذي بدت عليه يوم زفافها.
لا عجب، فالزمان زمان الادعاء الأجوف، وغياب المعيار الرصين المحكم، الذي يضع كل أمريء في مقامه الحقيقي. إنه زمان يتم التهجم فيه على حقوق الأموات والأحياء من المبدعين. زمان لا يدرك جيله الناهض سيرة موسيقار لا يمشي في الأرض هونا، وقد ختم حياته لأمته بعد أن أنجز نحواً من أربعمائة عمل بين لحن لقريض، وموسيقى بحتة. وكيف توازي تلك الإعلامية الناشئة إنتاجها الضئيل بإنتاج إذاعي آخر بلغ في تواضعه مبلغاً كبيراً، وهو الأستاذ عبد الرحمن زياد، الذي كان قد قرأ آخر نشرة إخبارية في (هنا أم درمان) يوم وفاة السيد عبد الرحمن المهدي ومنذ ذلك الوقت ظل يقدم صوته الدافئ عبر إذاعة صوت أميركا ولا يزال يعد البرامج، ويقدمها بصوته الآسر ويلفه التواضع النبيل حتى قبل وفاته قبل نحو ستة من الأعوام.
لقد كان السر قدور موفقاً حين قال يوماً: إن برعي محمد دفع الله أول من أعاد الاعتبار لقيمة الملحن، وجعله في مصاف لا يقل عن ما للفنان من مصاف. وحق لأستاذنا قدور أن يصفه بشيخ الملحنين، فهو الذي قدم لإبراهيم الكاشف الأغنية التي كتبها السر بنفسه وهي (أنا أفريقي أنا سوداني)، ولحن برعي غالبية أغاني عبد العزيز محمد داوؤد، التي تقف (أنت معي، وأجراس المعبد) في قمتها، وقدم لسيد خليفة (كأس وخمر وشفاه)، وقدم لعثمان الشفيع (أيامنا)، كما قدم لوردي (الوصية) وقدم لعبد الدافع عثمان (البحيرة ومرت الأيام)، كما قدم للجابري (سامحني)، وقدم لإبراهيم عوض (جمال دنيا، وأعز مكان وطني السودان) كما قدم الكثير لفنانين آخرين من بينهم التاج مصطفى، وأبو سريع، ومحمد الحويج. ولعل هذا مختصر لمئات الأغنيات التي تقف شاهدة على موهبته العظيمة.