تقارير وحوارات
أخر الأخبار

موسم الهجرة إلى الداخل..الأقاليم لم تُحسن استقبال وافديها فمارست فيهم أبشع أنواع الاستغلال

نيران صديقة
بقلم/الفضل الحاج عبد اللطيف

لا أكاد أجد مسوغاً لأي مواطن أجبرته الحرب على مغادرة داره ومدينته، ثم لم يجد إلا أن يحمل ما استطاع من المتاع ليعبر حدود وطنه الجغرافية ويتكبد مشاق السفر وتكاليفه الباهظة وإجراءاته المعقدة والمكلفة، بالإضافة إلى ما سيعانيه من ظروف الغربة والاغتراب ومفارقة الأحباب.
وقد كان لا بد لسكان الخرطوم من مغادرتها بعد أن أصبحت ميدان حرب بين قوى غاشمة وأخرى غشيمة، خاصة بعد أن بدأ القصف الجوي الذي لا يميز بين عسكري ومدني في البشر أو المنشآت. ولكن كان الأحرى بهم الهجرة إلى الأقاليم والولايات السودانية المترامية الأطراف، وقد فعل الكثيرون ذلك. ونصيحتي لكل من فعل ذلك أن لا يعود إليها بعد انقشاع الأزمة. فالخرطوم ليست مدينة نموذجية، ولم تكن صالحة للعيش حتى قبل اندلاع الحرب.
وإن كان ثمة منطقة طاردة فهي الخرطوم، وإن كان ثمة منطقة جاذبة فهي تلك الولايات، حيث تتوفر الأغذية وحيث الهواء النقي والناس الأصفياء. قد يسأل البعض عن الخدمات، فما هي الخدمات المتوفرة إلى حد الاكتفاء في الخرطوم؟ ولا شك أن تلك الهجرة الداخلية ستكون هي النواة لبناء الوطن. ففي تلك الأقاليم تكمن كل خيرات البلاد التي كانت تحتاج إلى من يستثمرها.
لقد كان أحد أهم أسباب انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو إهمال الحكومات والمواطن نفسه للمشاريع الريفية التي توفر المواد الخام للصناعات التحويلية وللتصدير، فأضطر المواطن إلى هجر دياره والاستقرار في العاصمة التي كانت مدينة جاذبة بحكم موقعها كمركز تجاري وإداري وثقافي، وأصبحوا كمن “تركوا الشقة فاضية وسكنوا في غرفة”.
وحينما يتوجه ذلك الخرطومي إلى المدن والبلدات المختلفة وخاصة مسقط رأسه فإنه يعني إضافة للمجتمع المحلي مما يزيد من نشاطها التجاري ويتيح المجال لنشاطات أخرى. كثيرون منهم فقدوا وسائل الراحة التي كانوا يستمتعون بها أيام الرخاء، وها هي أيام الشدة أقبلت. وكما يقال فإن أوقات الشدة تصنع الأشداء، والأشداء يصنعون الرخاء، ولكن المشكلة أن الرخاء يصنع الضعفاء كما هو حالنا اليوم. وأتمنى أن نخرج من هذه الشدة بأشداء يصنعون المستقبل بعد حالة الوهن التي عاشتها بلادنا.
وقد تطول الحرب لسنوات وتدمر المباني والبنى التحتية، مما يستوجب إعادة التعمير. وهي كذلك تدمر القدرات الاقتصادية للمواطن والدولة مما يستوجب إعادة الإنسان بناء نفسه من الصفر. وليست إعادة الإعمار بالأمر العسير؛ فقد دمرت الحروب لندن وبرلين وطوكيو فكيف هي اليوم؟ وإذا كنا قد فقدنا ممتلكاتنا فإن ما نملكه من ثروات تحت الأرض يساوي أضعاف ما فقدناه، كل ما علينا هو أن ننفض عنا غبار الكسل البدني والخمول الذهني لنعمل بجد على إعادة بناء أنفسنا لكي نبني بها ثرواتنا. وربما أراد الله أن يشتتنا في بقاع الأرض لنستخرج خيراتها التي أوجدها الله فيها ولم نكن نراها أو نهتم بها.
المؤسف في الأمر أن الأقاليم لم تحسن استقبال وافديها فمارست فيهم أبشع أنواع الاستغلال، ولم ينظروا إلى ما حل بديارهم من دمار ولأموالهم من نهب وسرقة، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة. ولم يتعظوا من ما جرى من أحداث، بينما كان المتوقع أن يفتحوا لهم بيوتهم ويقسموا معهم اللقمة، ولكنهم آثروا الربح السريع على المودة والرحمة، بينما “رحمة ربك خير مما يجمعون”. ولم ينظروا إلى أولئك المهاجرين إلا ككنز هبط عليهم من السماء، دون مراعاة لمشاعر الأخوة الإنسانية.
فالعاصميون في نظرهم هم الذين استأثروا بالسلطة والثروة وكونوا ثرواتهم على حساب (ناس الأقاليم) ولهذا فإن مالهم حلال. بينما هم قوم أرسلهم الله لتعمير أراضيهم. ولم يستشعروا نعمة تلك العقول من أطباء ومهندسين ومعلمين، والأيدي العاملة حينما تقيم في ديارهم، وكما هو معلوم فإن القوى البشرية هي أساس أي تنمية.
وقبل إعادة التعمير نحتاج إلى إعادة بناء الأمة أولاً لكي تستطيع ذلك. فالشخصية السودانية شخصية هدامة ومهزومة ومهزوزة وبها الكثير من العلل التي تحتاج إلى صدمة تجعلها شخصية فاعلة وإيجابية. وإن لم تعيدنا هذه الصدمة إلى صوابنا فسنظل نعاني نتيجة شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا التي نعلمها جيداً.
وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم،
وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى