الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام ( 1- 3 )

بابكر عثمان
وجد احمد عبدالرحيم مكاوي ( ابن أختي ) نفسه محبوسا في منزله منذ اليوم الاول للحرب التي اندلعت في الخرطوم صبيحة 15 ابريل 2023 ، كان غاضبا مما يحدث ولكنه في الوقت نفسه مستمتع وهو بين اولاده وزوجته ، يتابع القنوات الفضائية وما تنشره الصحافة والمواقع الالكترونية ، كما يقرأ بتعمق في تاريخ السودان حديثه وقديمه ، ففي نهاية المطاف يدير احمد مكاوي أكبر دار للكتب في السودان ( الدار السودانية للكتب ) وله مكتبة شخصية ثرة في منزله.
كانت هذه المقدمة ضرورية للقول إنه ظل يشاركني ما يقرأ ويتابع ، فتصلني منه يوميا عشرات المقالات والفيديوهات ، وفي خضم هذا الكم من المتابعة وجدت مقالا ألهمني كتابة هذا المقال ، ذلك أن احد المقالات لفت نظري الى مقارنة غريبة بين الشيخ محمد ابولكيلك زعيم الهمج في اواخر عهد مملكة سنار ومحمد حمدان دقلو ( حميدتي ) الذي تسيطر قواته على نحو 90% من مداخل ومخارج العاصمة الخرطوم
يمكنني القول دون مواربة إن ما يجري حاليا هو الاستباحة الثالثة للخرطوم خلال 500 عام ، ويجدر بنا ان نتساءل عن الاستباحتين الأولى والثانية والنتائج التي تمخضت عنهما ، حتى نتمكن من اطلاق خيالنا الى المآلات التي يمكن ان تتمخض عنها الاستباحة الثالثة الجارية حاليا ، اذا جاز لنا وصف ما يحدث بأنه استباحة.
الاستباحة الأولى
كانت سوبا (جنوب شرق الخرطوم) في مطلع القرن السادس عشر ( 1500 ) وهي عاصمة دولة علوة المسيحية تعيش قلقا متزايدا بسبب الاضطرابات التي تشهدها المنطقة في ذلك الوقت ، فالقبائل العربية التي تشكلت بموجب الهجرات من الجزيرة العربية والمغرب العربي بدأت تتململ وهي تحيط بتلك المملكة المسيحية وتتحفز لغزوها
وبعد نحو اربع سنوات فقط 1504 انعقد حلف بين القبائل الزنجية المسلمة في سنار والقبائل العربية القادمة من شمال ووسط السودان ، ونتيجة لذلك الحلف، غزت القبائل العربية والتي تمتطي الجمال والخيول سوبا عاصمة مملكة علوة، كانت سوبا مدينة جميلة فيها الشوارع المعبدة والقصور الفخمة والكنائس الكبيرة ، ورغم ان المؤرخين لم يذكروا الكيفية التي تم بها سحق تلك المدينة الجميلة ولكن يعتقد على نطاق واسع ان الاعراب سمحوا للسكان بمغادرة المدينة قبل استباحتها ، فنزح سكان سوبا الى مناطق في جنوب شرق السودان ( جبال فازوغلي ) و من ثم دخلت افواج الاعراب الى المدينة فنهبتها وخربتها واصبح يقال ( خراب سوبا ) تعبيرا عن الدمار الذي حاق بهذه المدينة واصبح ذلك العام هو بداية نشؤ دولة حكمت السودان الاوسط والشمالي نحو 300 عام ( 1504-1820 )
الغريب في الأمر أن حكام هذه السلطنة ( سنار ) وعددهم نحو 26 سلطانا لم ينج منهم من القتل سوى واحد فقط ، فقد كان مصيرهم جميعا القتل ، ولم يتمكن سوى بادي اوشلوخ من النجاة بحياته ، والغريب في الأمر أن من اجبره عن التنازل لم يكن سوى الشيخ محمد ابولكيلك ( 1710 -1776 ) وهو حفيد أمرأة ناجية من أهل سوبا ، فقد اطلق سكان سنار على القبائل النازحة من سوبا لفظة ( الهمج ) تقليلا من شأنهم ، وتم تحريف هذه الكلمة الى لفظة ( العنج ) في كتب التاريخ المدرسية
استميح القاري عذرا ان اتحدث قليلا عن مصير بادي ابوشلوخ 1762 لانه يشبه على نحو مثير المصير الذي آل اليه عمر حسن البشير 2019
حكم بادي ابوشلوخ مملكة سنار نحو 38 عاما ، فاعتمد لحماية نفسه بتقريب احد زعماء قبائل الهمج (الشيخ) محمد ابولكيلك ، ولقب (الشيخ) كان يطلق على بعض الاشخاص البارزين من الهمج ، وكان يحيط بالشيخ ابولكيلك عدد من فرسان القبيلة ، فشارك في معارك القضاء على مملكة المسبعات ( الابيض ) مع فرسانه وتمكن بفضل شجاعته واقدامه من اعادة تجميع الجيش بعد هزائم تلقاها عقب مقتل قادته ، فاستطاع ان يصبح قائدا عاما لجيش مملكة سنار في الابيض وهو من قبائل الهمج ( الأقل منزلة ) وفي نفس ذلك العام 1744 تمكن ايضا من صد هجوم واسع للاحباش لغزو المملكة
ارتفعت مكانة الشيخ محمد ابولكيلك ، فتم تعيينه حاكما لكردفان 1748 ، ولكنه عاد الى سنار 1862 فاتحا بعد ان سمع عن تدهور احوال المدينة بسبب استهتار بادي ابوشلوخ وازدياد المعارضة ضد نظام حكمه القائم على الظلم ، يشبه مكي شبيكة الأمر بحالة (أمير المؤمنين المعتصم) حينما استعان (بالأتراك) أو (الأيوبيين) (بالمماليك).. وانهما في الحالتين قد انقلبا على أسيادهم – يضيف في كتابه (تاريخ ملوك السودان ) ان سنوات السلطان (بادي أبو شلوخ) الطويلة – قد تميزت في نصفها بالعدل والخير والصلاح. فقد كان له وزراء من أهل الدراية والعلم ولكن وحال استفراده بالسلطة قتل بقية (الاونساب) وغير وبدل في الأنظمة التي تحكم وتنظم (السلطنة) وتجرأ على افعال ذميمة من بينها القتل والنهب وقام بقتل (الخطيب عبد اللطيف) وبالجملة قد ظهرت منه أمور شنيعة نفرت منه قلوب رعيته).
ففي الوقت الذي كان ابوشلوخ مطمئنا الى ولاء ابولكيلك وانه بصفته قائدا للجيش في الأبيض يشكل حماية له من اعداءه في الداخل ، انحاز ابولكيلك للمعارضة وأجبر السلطان بادي ابوشلوخ على التنازل عن الحكم لابنه ( ناصر ) واصبح ابولكيلك هو الوزير الاول في بلاط السلطان ، واصبح السلطان العوبة في يده. ويتفق كل المؤرخين الذين كتبوا عن تلك الفترة أن الشيخ محمد ابولكيلك ادخل اصلاحات عميقة على السلطنة واشاع نوعا من العدل والانصاف ، حتى ان مؤرخا ك (جاي سبولدنج) في كتابه (عصر البطولة في سنار) اعتبر تلك الفترة هي فترة البطولات في سنار، اما المؤرخ البريطاني البارز المتخصص في تاريخ السودان ماكمايكل يصف محمد ابو لكيلك بأنه ( ربما كان من اعظم الرجال الذين انجبهم السودان في القرنين السابع عشر والثامن عشر)
ولم تمض سوى 45 عاما من وفاة ابولكيلك( 1776 ) بإذا بالسلطنة تقع فريسة سهلة للغزو المصري التركي للسودان ( 1820 )
في الحلقة القادمة سنتحدث عن الاستباحة الثانية للخرطوم
تابعوني