ايهما يسبق الآخر ،، الأزدهار الاقتصادي أم الديمقراطية !!

بقلم / مامون حاتم الفنوب
ادارة اعمال – جامعة الخرطوم
خلال موجة الثورات التي اجتاحت الدول العربية في الفترة ما بين عامي 2011و 2013 كانت هناك رسالة متكررة تبث من خلال بعض قنوات الاعلام مفادها أن الدول الغربية دول مزدهرة اقتصاديا بفضل النظام الديموقراطي الذي تتبناه ، ما يعني ضمنا ان الديموقراطية الغربية بشكلها الحالي هي السبب في جلب الازدهار الاقتصادي . لكن عند الرجوع لتاريخ هذه الدول وغيرها من الدول المزدهرة اقتصاديا نجد ان هذا الأمر ليس صحيحا بالضرورة وهنا سنتحدث عن منطقتين مزدهرتين حول العالم للوقوف علىً السبب الحقيقي لازدهارها ، بمعنى اخر هل جلبت الديموقراطية الازدهار الاقتصادي لهذه الدول ام كانت نتيجة له؟
بحسب تقديري فان الازدهار الاقتصادي غالبا ما يسبق الديموقراطية بل هو ضروري للحفاظ عليها، وايضا تساهم الديموقراطية في المحافظة على الازدهار الاقتصادي بعد تطبيقها، وغالبا ما تكون نتيجة حتمية له. وهنا لابد من دراسة النموذجين الاوروبي والاسيوي بشيء من العمق لفهم السبب الحقيقي لازدهار هذه الدول والدور الذي لعبته الديموقراطية فيه.
عند تدريس تاريخ النهضة الاوروبية في المدارس والجامعات المختلفة غالبا ما يبدا الحديث عن عصر النهضة بوصفه حركة ثقافية بدات في ايطاليا في اواخر العصور الوسطى في اوروبا اي في حوالي القرن الرابع عشر. ثم انتشرت هذه الحركة الى باقي البلدان الاوروبية ، نتيجة لهذه الحركة الثقافية وانتشار الورق واختراع ماكينة الطباعة في المانيا والتي ساهمت في انتشار الافكار بسرعة وانتشار العلم التطبيقي في العلوم المختلفة مثل الكيمياء والاحياء والرياضيات وغيرها من العلوم ، كما شهدت هذه الفترة الكشوف الجغرافية والتي تعد رحلة كولومبوس الى قارة امريكا من اشهرها على الاطلاق.
الجدير بالذكر ان كل هذه الحركة تمت في ظل مناخ استبدادي من قبل الملوك الذين كان معظمهم يتمتع بسلطة مطلقة من جهة ، وايضا الكنيسة التي كانت تحرق الناس بتهمة الهرطقة من جهة اخرى ، صحيح ان السلطة المطلقة لهاتين الجهتين تاكلت مع الزمن ، لكن هذا لا ينفي ان العديد من الاكتشافات العلمية والجغرافية والتي ساهمت بتقدم الشعوب الاوروبية على باقي شعوب العالم علميا ومهد لاستعمار اراضي تلك الشعوب فيما بعد تمت في ظل هذا المناخ الاستبدادي. وعند قيام الثورتين الامريكية والفرنسية في العامين ١٧٧٦ و١٧٨٩م على التوالي كانت كل من المستعمرات الامريكية وفرنسا من اكثر مناطق العالم تقدما وازدهارا حتى قبل المطالبة بالديموقراطية ، وحتى عند تطبيق الديموقراطية تطورت خلال زمن طويل لتاخذ شكلها الحالي ، فمثلا كانت هناك قيود على تصويت النساء في فرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
من خلال هذا السرد يتضح لنا ان الازدهار الاقتصادي في اوروبا حدث نتيجة للتطور العلمي الذي وظف في اختراعات ساهمت في زيادة الانتاج الاقتصادي وايضا استعمار باقي انحاء العالم اما الديموقراطية فقد اتت كنتيجة لهذا الازدهار وليس العكس. لكن غياب الحكم الرشيد اطال فترة تحقيق الازدهار لتكون حوالي ثلاثة قرون وهذا مختلف تماما عن النموذج الاسيوي الذي سنراه بعد قليل.
لا يمكن الحديث عن النموذج الاسيوي دون التطرق الى اليابان باعتبار انها حققت واحدة من اهم المعجزات الاقتصادية في التاريخ البشري ليس للنمو الاقتصادي المذهل فحسب وانما ايضا لان هذا النمو استغرق وقتا قصيرا نسبيا مقارنة بالدول الاخرى خاصة الدول الاوروبية، فمنذ ان قررت اليابان انهاء سياسة العزلة في منتصف القرن التاسع عشر عن طريق اصلاحات التي قام بها الامبراطور الياباني ميجي والتي ركزت على ضرورة الانفتاح على الغرب ونقل التكلنوجيا الغربية باسرع ما يمكن ، وهنا يجب التشديد على ان هذه الاصلاحات ونهضة اليابان تمت في مناخ ابعد ما يكون عن الديموقراطية ، ورغم ذلك نجحت اليابان في نقل الحضارة الاوربية التي استغرق انشاؤها ثلاثة قرون في ثلاثة عقود فقط . ولعل الفضل في ذلك يرجع الى ان الحكم اتسم بالرشد رغم غياب الديموقراطية وهي سمة وجدت في دول اخرى في اسيا مثل سنغافورة وماليزيا. والقائم المشترك بين هذه الدول ان الديموقراطية اتت بعد الازدهار الاقتصادي.
ويمكن تلخيص النموذج الاسيوي في انه يعول على الحاكم الرشيد الذي يتمتع بسلطات واسعة، ولعل اهم اسباب انتشار هذا النموذج في اسيا تحديدا هو مجتمعها الذي يحترم الكبار بشكل عام ، وايضا دولها المتجانسة الى حد بعيد من الناحية العرقية والثقافية، كما اتسمت الدول الاسيوية بشكل عام بتاريخ خال نسبيا من الحزازات الدينية والعرقية والحروب ، وهذا جعل شعوب تلك الدول بشكل عام تسم بالعملياتية و تقدم العمل على الايدلوجية. لكل ما سبق تمكنت هذه الدول من اللحاق بالدول الاوروبية بشكل سريع.
عند الحديث عن المنطقة العربية فهي اقرب في تاريخها وتكوينها الى الدول الاوروبية وهذا ما سيجعل عملية الاصلاح الاقتصادي والسياسي فيها تستغرق وقتا طويلا وغالبا ما ستواجهها العديد من العثرات. فالدول العربية تتسم بحدود مصنوعة نتيجة للاستعمار الغربي وهذا جعل منها شعوبا غير متجانسة اذ غالبا ما يكون هناك اكثر من شعب في الدولة الواحدة ، وهذا يعني ان الصراع على السلطة سرعان ما ياخذ بعدا عرقيا او مذهبيا لذلك سرعان ما يتقدم الخطاب العرقي والطائفي على الخطاب البرامجي بما في ذلك البرامج الاقتصادية حتى في الديموقراطيات الهشة مثل العراق ولبنان ، اما الدول المستبدة فايضا غالبا ما يتقوى الحاكم المستبد بجماعته العرقية او الطائفية . لذلك لابد بحسب تقديري من ان يتقدم الازدهار الاقتصادي على الديموقراطية ببساطة لان الازدهار الاقتصادي غالبا ما يخلق طبقة وسطى وغنية تفكر على اساس البرامج الانتخابية للمرشحين وليس عرق او طائفة المرشح.
من كل ما سبق يتضح لنا ان اي تجربة ديموقراطية لا تسبقها درجة كافية من الازدهار الاقتصادي محكوم عليها بالفشل في الغالب ، الجدير بالذكر ان الزمن لا يصلح التجارب الديموقراطية التي بدات قبل اوانها ، والمدافعون عن هذه الفكرة اشبه بمن يدافع عن ارسال طفل الى الجامعة والقول انه سيتعلم بعد اعادة السنة الاولى عدة مرات ، والسودان من خير الامثلة على ذلك حيث ان ساسته يكررون نفس الاخطاء تقريبا رغم مرور اكثر من ستين عاما على الاستقلال. وفي تقديري فان المجتمع المدني القوي الذي ساهم بشكل فعال في نهضة اوروبا في الماضي هو المخرج لهذه المنطقة بما في ذلك السودان لتحقيق الازدهار الاقتصادي حيث يندر ان يجمع حاكم بين الاستبداد والراي السديد وكما قال برنارد راسل ( مشكلة العالم ان الحمقى واثقون بانفسهم والعقلاء تملؤهم الشكوك).