تقارير وحوارات

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت وهكذا انتصرت 

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة الثامنة عشر : شهداء بينهم طفلة

بقلم/بابكر عثمان

تابعوا معي مجريات الاحداث والتي انتهت بزوال حكم الرئيس السابق جعفر نميري في 6 ابريل 1985 ، توقفنا في الحلقة الماضية عند تصريحات مسؤولين سودانيين بعد نحو ثلاثة أيام من اندلاع مظاهرات الطلاب ( امدرمان الإسلامية – معهد الكليات التكنولوجية – جامعة القاهرة – الفرع ) مع انضمام شماسة الخرطوم وامدرمان اليها ، مفادها ان الأوضاع في طريقها الى الاستقرار وان تلك المظاهرات سببها ( شماسة جوعى ) و ( اخوان مسلمين متامرين )

استنادا على هذه النظرية ( نظرية ٱن المظاهرات هي تعبير عن نازحين جوعى ) أو اخوان مسلمين متآمرين حاولت السلطات الأمنية في الخرطوم أن تتعامل مع تلك المظاهرات بتوجيه عنف متزايد نحو النازحين ، فعادت الى اسلوبها المفضل وهو تنظيم عمليات اعتقال وترحيل لشباب غرب السودان الغاضب، فحسب بابكر علي التوم معتمد ( والي ) العاصمة القومية فقد ابعدت سلطات الأمن عدة آلاف ممن أطلق عليهم “المتسكعين ومجهولي الهوية” عن الخرطوم وام درمان وقامت بترحيلهم الى مواقع الإنتاج في مختلف الأقاليم ، كما صرح ايضا في صبيحة الجمعة 29 مارس أن السلطات الأمنية اكتشفت عصابة مسلحة من الذين قاموا بأحداث الشغب.

إمتلأت صفحات وسائل الاعلام المحلية و العربية بمثل هذه التصريحات ولكن الدبلوماسيين الغربيين كانوا يعرفون أن الحقيقة غير ذلك تماما فقد نقلت وكالة اسوشيتدبرس الأمريكية من واشنطون عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن الولايات المتحدة تعرب عن قلقها تجاه الوضع في السودان الذي وصفوه بأنه( صديق وشريك مهم لواشنطن في أفريقيا ) وقال المسؤولون الأمريكيون الذين رفضوا الكشف عن هوياتهم إن إدارة الرئيس رونالد ريحان أبلغت الحكومة السودانية أن المصالحة الوطنية و التسامح الديني هما السبيل الوحيد لحل مشاكل السودان وأضاف مسؤول أمريكي رفيع المستوى للصحفيين انهم يشعرون بالقلق حيال استقرار وقوة حكومة السودان ودافع عن تعاملهم مع الخرطوم قائلا “اذا كان يتحتم علينا أن نقصر دبلوماسيتنا في أفريقيا على الدول ذات النظام الديمقراطي فلن يكون لدينا الكثير من الدبلوماسية”.

جاءت تلك التصريحات بعد نحو ثلاثة أيام من وصول الرئيس نميري الى واشنطون والتي وصلها في 27 مارس ، عشية اندلاع المظاهرات في الخرطوم

أول اضراب

حفزت المظاهرات الطلابية القوى السياسية والنقابية للتحرك ، وبدا ان نقابة الأطباء والتي يترأسها د. الجزولي دفع الله كانت البادئة في التحرك ، فالجزولي دفع الله هو أحد الكوادر الإسلامية وكان عضوا في الاتجاه الإسلامي وأيد بشدة تطبيق قوانين سبتمبر حين إعلانها في سبتمبر 1983 كما أيد أيضا اعدام النظام للمفكر الإسلامي محمود محمد طه في يناير 1985 ، اي قبل هذه المظاهرات بنحو شهرين فقط

ومن الجهة الأخرى كان الأطباء هم أكثر فئات المجتمع اطلاعا على المعاناة التي يواجهها الشعب ، فالمستشفيات مكدسة بالمرضى الذين يعانون من الألم دون وجود خدمات طبية كافية ، كما أن ضحايا المظاهرات من القتلى والجرحى يصلون أولا للمستشفيات ، ففي يوم السبت 30 مارس أعلنت نقابة الأطباء اضرابا عن العمل احتجاجا على القسوة البالغة التي ابدتها قوات الأمن والجيش ضد المتظاهرين. وقال مدير مستشفى الخرطوم العام إن المستشفيات الحكومية لم تستقبل سوى الحالات الطارئة والحوادث وحسب وكالات أنباء فقد شوهد المئات من الأطباء المضربين عن العمل في صباح ذلك السبت وهم يتجولون في أروقة المستشفى فيما ذكر بعضهم انهم اضربوا منذ يوم الخميس 28 مارس ، فيما صرح أحدهم أن إضرابهم هو تحرك سياسي القوا فيه بكرة الثلج نحو عصيان مدني يستهدف الإطاحة بسلطة نميري. وقال طبيب شاب انهم أصدروا بيانا طالبوا فيه النقابات الأخرى بالانضمام إلى إضرابهم السياسي لإسقاط النظام. وقد وزع الأطباء المضربون منشورات مناهضة للنظام تصف فيه نميري بالكذب وتتهمه بتحطيم الوحدة الوطنية وبيع البلاد لما أسماه ذلك البيان ( للقوى الإمبريالية ) وأشار صراحة الى الولايات المتحدة.

كرة الثلج

كان ذلك الاضراب هو بالفعل كرة الثلج التي بدأت تتدحرج نحو الاحزاب والنقابات الاخرى فبعض المنشورات التي تم توزيعها خلال ذلك اليوم حملت توقيعات احزاب سياسية من ضمنها حزب الأمة وحزب البعث العربي الاشتراكي ، فيما صرح دبلوماسي غربي لصحيفة التايمز البريطانية قائلا (اذا استمر اضراب الأطباء و انضم إليهم المهندسون وبعض الفئات المهمة فإن الوضع سيكون خطيرا جدا بحيث يهدد نظام نميري)

في عشية ذلك اليوم اجتمع زعماء نقابات الاطباء والمحامين والمهندسين والأكاديميين من أساتذة الجامعات والمعاهد العليا وغيرها واتحادات الطلاب وتداولوا في الخطوة المقبلة وهي حشد طاقاتهم جميعا و الدعوة إلى إضراب عام وعصيان مدني شامل)

في هذا الوقت، استشعر جهاز الأمن خطورة الموقف ، فشكل خلية أزمة برئاسة عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية ورئيس الجهاز والذي وجد نفسه وحيدا دون سند حقيقي من اجهزة الدولة الاخرى ودون وجود الرئيس جعفر نميري والذي تميز بشخصية كارزمية قوية. وعقب اجتماع خلية الأزمة صرح مسؤول أمنب كبير لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية أن حالة التأهب القصوى قد أعلنت في أوساط أجهزة الأمن والقوات المسلحة استعدادا لمواجهة اي محاولة تستهدف الأمن العام. وقال المسؤول ان قوات الشرطة والأمن اتخذوا إجراءات صارمة لمراقبة تحركات المعارضة كما ان القوات المسلحة بدأت في تأمين المواقع.

الخونة داخل الاتحاد الاشتراكي

لوجظ في تلك الأجواء المضطربة أن الاتحاد الاشتراكي وهو التنظيم السياسي الوحيد المصرح له بالعمل الحزبي بدأ يتحرك في اتجاه حشد قوته السياسية لمواجهة الموقف الشعبي والأمني المتأزم ولكن أمينه العام محمد عبد القادر عمر وهو ضابط سابق في القوات المسلحة كشف لجريدة الشرق الأوسط اللندنية في تصريحات نشرها في صبيحة السبت 30 مارس أن هناك خونة وجواسيس في الاتحاد الاشتراكي و ان الرئيس جعفر نميري سيجري تغييرات في قيادته بعد عودته من الولايات المتحدة وقال ان عملية التطهير ستكون موجهة ضد ما أطلق عليهم “الجواسيس والخونة” وآخرين لم يتمكنوا من الارتفاع الى مستوى المسؤولية.

شهداء بينهم طفلة

كانت الايام الثلاث الأولى ( الثلاثاء – الأربعاء – الخميس ) مليئة بالعنف ، استخدمت فيها قوات الشرطة والأمن الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين خصوصا في وسط الخرطوم عندما انطلقت مظاهرة طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم ولكن لوحظ انه في يومي الجمعة والسبت بدأ للمراقبين وقتها وكأن الأوضاع في العاصمة الخرطوم بدات تقريبا تعود إلى حالتها الطبيعية كما لوحظ ارتكاز جنود مسلحين في مجموعات صغيرة خارج مكاتب وكالة السودان للأنباء والاتحاد الاشتراكي ومحطات بيع الوقود والسفارات الأجنبية وتم نشر مظليين وافراد من الحرس الجمهوري خارج كل المكاتب الحكومية وعلى الطرق الرئيسية بالإضافة إلى دوريات تجوب العاصمة.

وبلغ عدد المعتقلين حتى يوم السبت نحو 2642 شخصا وجرت محاكمات فورية لعدد 851 شخصا شملت أحكام بالجلد والسجن والغرامة وبقي في الحراسات نحو 1791 شخصا من الذين يجرى استجوابهم انتظارا لإعادتهم الى مناطقهم التي ضربها الجفاف في كردفان ودارفور. ، كانت هذه المعلومات قد وردت في بيان نشرته صحيفة الأيام مما أغضب الرئيس نميري في مكان اقامته في واشنطون واتصل بنائبه عمر محمد الطيب ووبخه على نشر هكذا معلومات دون استشارة وزير الاعلام علي محمد شمو والذي كان بدوره خارج البلاد لحضور اجتماع لوزراء الاعلام الافارقة

أما نقابة الأطباء فقد نشرت أول اسماء لقتلى برصاص قوات الأمن وهم

عبد الجليل طه

أزهري مصطفى

ويليام –

مشاعر محمد عبد الله وهي طفلة تبلغ من العمر سنة ونصف، قتلت اثر سقوط والدتها وهي تفر من نيران الشرطة

فيما أشار بيان الاطباء أن مستشفى الخرطوم مازال يتحقق من هويات 20 ضحية أخرى في الاشتباكات.

في الحلقة القادمة تابعوا معي التصريحات النارية التي أطلقها نميري في مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط ، كما سنتابع ايضا انخراط النقابات والاتحاد الاشتراكي في الدعوات للحشود الشعبية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى