مقالات

الانتفاضة السودانية هكذا بدأت وهكذا انتصرت الحلقة السادسة عشر : اليوم الثالث الدامي

 

بقلم / بابكر عثمان

حتى اليوم الثالث للانتفاضة في ٢٨ مارس ١٩٨٥ لم يخرج المواطنون الى الشوارع ، لقد تولى زمام المبادرة حتى ذلك الوقت طلاب الجامعات بمؤازرة الشماسة او الأطفال النازحين من غرب السودان ، ضحايا المجاعات الناتجة عن الجفاف الطويل وسوء الإدارة وتكتم السلطات عن الكشف عن حجم المأساة
فالرئيس نميري وفي عشية زيارته للولايات المتحدة لم يتراجع عن سياساته الاقتصادية الضاغطة وهو يرى طلاب الإسلامية والشماسة وقد خرجوا عن طوعه ، فأعلن عن إلغاء الدعم من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية ووعد في نفس الوقت بإعادة النظر في أجور عمال وموظفي الدولة لتخفيف العبء عنهم. وأكد نميري ان وجود مليون لاجئ يشكل عبءا على ميزانية الدولة ودعا أمريكا لمساعدة بلاده بصفة خاصة من أجل التصدي للتصحر وحث الاتحاد السوفيتي على تقديم الغذاء بدل السلاح لأفريقيا. وناشد العراق وإيران وقف الحرب واستخدام فائض أموالهم في مساعدة السودان وأفريقيا على مكافحة زحف الصحراء والجفاف.)

زراعة شجرة قبل المغادرة

وقبيل مغادرته الخرطوم في 27 مارس متوجها الى واشنطون افتتح أعمال اللجنة الوطنية للسلام المكلفة بإجراء مفاوضات مع الجنوب وقال إن اللجنة مؤهلة للقيام بأي عمل داخل وخارج السودان يؤدي إلى السلام والوحدة الوطنية وطلب اليها تقديم أي اقتراحات أو تعديلات دستورية او قانونية لوقف هذه الحرب ، ثم ذهب الى الحزام الأخضر و زرع شجرة هناك و منها ذهب الى مطار الخرطوم في رحلة لم يعد بعدها ابدا كرئيس للسودان

ولكن وفي ذلك الوقت بالذات كان الشماسة مع طلاب معهد الكليات التكنولوجية اقاموا مظاهرات عنيفة اجتاحت العاصمة الخرطوم، حيث قاموا بإحراق بعض الأبنية والسيارات وألقوا الحجارة على واجهة الفنادق والمتاجر وحطموا زجاجها مما اضطر قوات الأمن إلى التدخل بإعداد كبيرة وإطلاق النار واعتقال بعضهم.
أما القوات المسلحة السودانية وقائدها العام عبدالرحمن محمد حسن سوار الدهب والذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الدفاع ، فلم يكن في حسبانها ابدا ان تتدخل لقمع المظاهرات ولكنها أرسلت بالخفاء بعض جنودها لمساعدة قوات الشرطة والأمن لفرض حراسة مشددة على المباني الحكومية والمؤسسات العامة والفنادق والشركات لحمايتها من المظاهرات ، ويمكن تفسير ذلك ان القوات المسلحة ليس مخولا لها الانتشار في المدن دون اعلان حالة الطوارئ
لم تقتصر المظاهرات على منطقة وسط الخرطوم ولكنها اجتاحت ام درمان أيضا ولكن مراسلو وكالات الأنباء عجزوا في ملاحقة الاحداث بسبب ضعف الاتصالات وقتها ، إضافة الى ان الأمر لم يكن متوقعا البتة،
ففي مساء ذلك اليوم بدأت وكالات الأنباء تعتمد على معلومات يطلقها دبلوماسيون ، فوكالة الصحافة الفرنسية وكانت نشطة للغاية في تلك الأيام نسبت الى مصدر دبلوماسي في الخرطوم قوله ان 3 من المتظاهرين قتلوا وأصيب عدد اخر برصاص قوات الأمن.

معاناة الوصول الى السوق الشعبي

خرجت من منزل قريبي الشاعر عبدالرحمن مكاوي في الحاج يوسف صباحا قاصدا السوق الشعبي لشراء تذكرة عودة الي مدينتي (كسلا) وكنت قد لجأت اليه بعد تفريق مظاهرة الأمس والتي قادها اتحاد طلاب جامعة امدرمان الإسلامية وهي المظاهرة الأولى والتي اعقبها اعلان اغلاق الجامعة
يقع السوق الشعبي بالقرب من ميدان سباق الخيل بمنطقة السجانة فواجهت صعوبات جمة في الوصول اليه ، فأبناء النازحين من غرب السودان اغلقوا الشوارع المؤدية الى السوق واشعلوا الإطارات ورجموا السيارات والمارة بالحجارة ، كان الغضب يعتمل في الصدور، لم يكن غضبا موجها الى نظام نميري او الى الرئيس نميري شخصيا فقط ولكنه غضب ضد الظروف السياسية والاقتصادية وضد الطبيعة والتي جعلت منهم نازحين في بلدهم.
في اليوم التالي الخميس 28 مارس 1985 خرج طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم، واشتعلت المظاهرات من جديد، ولكن جرى تطور خطير في هذا اليوم حيث لم يكتف المتظاهرون من أبناء غرب السودان برجم السيارات او حرق الإطارات انما تم اشعال النار في محطتي بنزين في الخرطوم وإحراق حوالي 100 سيارة مع اتساع موجة المظاهرات. الى يوم الآربعاء كانت قوات الشرطة هي من تتصدى للمظاهرات ولكن في صبيحة الخميس تم تعزيز الوضع بحشد مزيد من قوات الجيش وقوات جهاز الأمن واتخذت هذه القوات مواقعها في الشوارع والميادين الرئيسية كما اشتبكت وحدات من الأمن مع المتظاهرين بالقرب من السفارة الأمريكية بشارع علي عبداللطيف القريب من جامعة القاهرة فرع الخرطوم ( أصبحت فيما بعد جامعة النيلين ) وصرح مسؤول في السفارة الأمريكية ذلك اليوم قائلا ان شرطة مكافحة الشغب استخدمت الغاز المسيل للدموع لإيقاف تجمع 75-100 شخص كان يزحف نحو السفارة والتي تم تعزيز الحراسة حولها )

في ذلك الخميس الدامي سقط سائق تاكسي قتيلا بينما فقدت الشرطة اثنين من منسوبيها أما قوات الزمن فباشرت اعتقال 1500 شخص وأجريت لهم محاكمات فورية وصدرت أحكام مختلفة ضد 300 منهم.

تحميل الاخوان المسلين مسؤولية المظاهرات

حاول قادة النظام ملاحقة الأحداث واعتبروا ان اغلاق الجامعات قد يكون حلا لتهدئة الأوضاع فصدرت قرارات تقضي بإغلاق جامعة القاهرة فرع الخرطوم و معهد الكليات التكنولوجية وقبلها اغلاق جامعة ام درمان الإسلامية ، اما جامعة الخرطوم فقد كانت مغلقة منذ فبراير قبل اندلاع الانتفاضة نتيجة تلك الاحداث التي أشرنا اليها سابقا وهي الأحداث التي مهدت لهذه الأجواء المضطربة، يجدر بالذكر هنا ان اتحادات هذه الجامعات لم تكن خاضعة البتة للتيار الإسلامي والذي اعلن نميري فض التحالف معه قبل ذلك بأسبوعين حيث جرى اعتقال زعيم الإسلاميين د. حسن الترابي وعددا من مساعديه في العاشر من مارس ٨٥ و رغم ان التيار الإسلامي المرتعب والمتفاجئ بفض الشراكة لم يكن جزءا او محركا لتلك المظاهرات غير ان جهاز الآمن العام اصدر بيانا اوليا في ذلك اليوم قال فيه ان العناصر القيادية في تنظيم الإخوان المسلمين ممن لهم صلة بالمظاهرات قد اختفوا وطالبهم بتسليم أنفسهم فورا لجهاز امن الدولة او أقرب نقطة شرطة فور سماع النداء وطالب المواطنين بالتعاون والإبلاغ عن اي منهم او عن اية معلومات) فيما اشارت إذاعة امدرمان التي اذاعت البيان أن أسماء المطلوب القبض عليهم هم :

o علي عثمان محمد طه

o مهدي إبراهيم محمد الحاج

o إبراهيم السنوسي

o د. التاج فضل الله –

o د. علي الحاج

o محمد عبد الله جار النبي

o دفع الله التوم

o محمد طه محمد احمد

o امين بناني نيو

o بشير ادم رحمة

o أمين حسن عمر –

o التيجاني عبد القادر

o خالد حسن إبراهيم –

o عمر الأمين الحسين –

o محمد احمد التاجر –

o معتصم عبد الله الفادني

o – محمد عوض البارودي

ومن جهتها أصدرت منظمات تابعة للاتحاد الاشتراكي السوداني بيانا حملت فيه مسؤولية المظاهرات وأعمال الشغب على عاتق الإخوان المسلمين واتهمت عناصرهم بالتآمر ودفع الأبرياء للقيام بأعمال تخريبية للممتلكات العامة والخاصة وقال إن المؤامرة بدأت في جامعة أم درمان الإسلامية
ثم انطلقت الى الخرطوم تمهيدا لاشعالها في المدن الاخرى. وحذر البيان الإخوان المسلمين والمنظمات الحزبية من مغبة القيام بمثل هذه الأعمال وقال “ولن نسمح بظهورها مرة أخرى”.

بهذه البيانات حاول سياسيو النظام وقادة اجهزته الأمنية تحميل ما اطلقوا عليه تنظيم الاخوان المسلمين مسؤولية تنظيم المظاهرات واعمال الشغب ، في محاولة بائسة لحشد التأييد للنظام بالتجاهل للأسباب الحقيقية التي دفعت الطلاب والنازحين ومن بعدهم سكان العاصمة الى الخروج الكبير

في الحلقة القادمة، نظل في يوم الخميس لنستعرض البيان الكارثي الأول والذي صدر عن جهاز الأمن في تفسير أسباب المظاهرات ، كما نستعرض بعض ردود الفعل الدولية وبعض اقوال الصحف العربية التي تابعت المشهد السوداني الدي بدأ يتدهور بسرعة خارقة
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى