أعمدة

مع من تريد ” قوى الثورة الحية” أن تجلس لتتفاهم على الخطوط الوطنية؟

بدون زعل..

بقلم/عبدالحفيظ مريود

ما لا تعرفه عن الثورة السودانية

كان محمد الواثق قد عاد لتوه من ليبيا، وانتظم بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، مستأنفا تدريس علم العروض. ذهبت إليه، منتصف التسعينات، لإجراء حوار. أتذكر جملته الشهيرة ” من الخطر تحديد معنى أمدرمان”، ذات حوار صحفى، أواخر الثمانينات. ذلك أنه كان قد شغل النقاد والدارسين، وأزعج الامدرمانيين بديوانه ” أمدرمان تحتضر”، الذى هجا فيه أمدرمان هجاء مرا…

شايف كيف؟

والأعراب يخشون الهجاء خشية تكاد تكون مرضية..يمكنك أن تجعل قبيلة كاملة تغير رأيها وموقفها، إذا سلقتها بقصيدة هجاء باترة. قالوا إن الأعرابي حين نزلت الآية ” الأعراب أشد كفرا ونفاقا، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله”، قال معلقا، بحسرة ” لقد هجانا ربنا”..وهى فضيحة كبرى بالنسبة إليه.

المهم…

محمد الواثق مصطفى، أسر لى ذاك النهار الحوارى أنه بصدد إصدار ديوانه الثانى “عصا التسيار “، لكنه لا يجد ناشرا أمينا يعرف الحقوق. وكان فى قصيدة جزلة قد قال فى معرض المقارنات بين المتحضرين من البشر، وقومه السودانيين، أن السودانى قد ” بنى أمدرمان، مسخا، وافتخر”، مدللا على ذلك ب:

قوم إذا ما أبعرت أبقارهم *مسحوا الجدران من روث البقر.

فتأمل، رعاك الله، وحقق مبتغاك.

لم يستوقفنى إختصار دقيق ولماح، يغنى عن حمولة من الكتب والتحليلات، كما استوقفتنى دقة ملاحظات الواثق النافذة إلى عمق الوعى السودانى ” بنى أمدرمان مسخا، وافتخر”..فالوريث الشرعي للحضارات الراسخة فى وادى النيل، والتى لا تزال آثارها تحفا فنية لا مثيل لها، لا يمكن أن ينتهى به الحال إلى إنتظار ” إبعار” الأبقار ليصنع من روثها طلاء للجدار كى لا تنحر الأمطار بناءه الجالوصى الذى يخلو من أى لمسة جمالية، فنية، هندسية، ذوقية، جن أحمرية…بل ويقف دليلا دامغا على تبنى القبح منهجا للحياة..فأي قبح بعد هذا؟

شايف كيف؟

كيف تكون هذه الجواليص المعوجة الركيكة، والأعشاش البائس لسكان القرى والأطراف، هى حظنا من إستئناف رحلة جمالية تجلت فى المعابد، الأهرامات،المدينة الملكية، النقعة والمصورات، التماثيل الدقيقة، الجداريات، وغيرها؟

هناك شيئ خاطئ، لا شك، يراه محمد الواثق، يلمح إليه، ولا يفصح عنه…لكن ما هو؟

شايف كيف؟

المتحذلقون يذهبون إلى نظرية ” الانقطاع الحضارى”..لكن العتمة التى نحن فيها تتجاوز الألف عام. ذلك أنه منذ عهد مروى لم يقم سودانى صرحا معماريا يلفت الانظار، دعك من أن يكون استئنافا أو طفرة حضاريا..تشير الفترة المسيحية إلى بدايات البؤس والإظلام…قبل أن يكتمل ذلك بالدويلات أو الممالك الإسلامية البائسة..بإستثناء قصر السلطان على دينار، والذى يرجع فيه الفضل إلى البنائين المصريين، لن تجد لسلاطين الفور، الفونج، العبدلاب، العباسية تقلى أى أثر ماثل، يثبت أن ههنا كانت مدينة أو سلطنة أو حضارة..ثم قام الأتراك بتخريب مبانى سوبا – على بؤسها – ليشيدوا بطوبها وحجارتها بعض منشآت العاصمة، الخرطوم.

شايف كيف؟

هل شلع الأنصار عشية إنتصارهم على غردون مبانى التركية ليشيدوا، بدورهم، عاصمتهم الوطنية؟

ليس من أدلة على ذلك..إلا أن البعض يؤكد أن جزء من ميراث التركية تم جلبه لبناء بيت الخليفة التعايش وبعض ” مؤسسات الدولة الأنصارية”…مع ملاحظة أن ثمة تحديثات كثيرة أدخلها الإنجليز على بيت الخليفة، ليصير سكنا ل ” معتمد أمدرمان الانجليزى”.

لكن الثابت أن النوبيين هم من دمروا مروى. والتحالف الفونجى العبدلابابى دمر ما خلفه النوبيون المسيحيون. ليدمر الأتراك ذلك، فيدمره الأنصار. هل ثمة قبح يمكن لأحد أن ينشره، وخراب بقدر ما فعله السودانيون بوطنهم، على طول التاريخ؟

وعليه…

سيكون الإنجاز الوحيد الممعن فى بؤسه هو الجالوص، الممسوح بروث البقر..كتب على المك ” مدينة من تراب”، تغزلا فى الإنجاز العظيم. ثم جاءتنا ” شدى حيلك يا قطاطى، ويا بيوت الطين أقيفى”، وهى ذروة سنام الرومانسية الواقعية الإشتراكية، إنحيازا للفقراء، ملح الأرض.. ويمكنك أن تراقب التمجيد الجسور للفقر والقبح عند حميد والقدال، كأنما يفترض فى البساطة والحياة السمحة أن تكون فقيرة، موغلة فى القبح.

وعلى غرار النوبيين فى تخريبهم لمروى، تتسرب الجينات لتدمر ما هو قائم ، على بؤسه. ملقية بإعادة الإعمار ، أو البناء فى مستنقع الأمانى الكاذبة “ح نبنيهو”، صيغة غارقة فى التسيب، مفعمة بالمجهولية التى لا تقيم وزنا للوقت، كنعصر حاسم فى صناعة التاريخ.

شايف كيف؟

ماذا كانت خطة أولئك السودانيين فى جميع مراحل ما بعد مروى؟

يمكن تلخيصها فى الآتى:

ما لم أكن/نكن جزء من كشك الليمون ذى الربحية العالية، فى ناصية الشارع، والأفضل أكون/نكون مالكيه، فإن على كشك الليمون أن يغادر ناصيته تلك. لا مكان له ههنا…ذلك هو الذى أوقف التطور الطبيعى للنظم التى حكمت من سوبا، دنقلا، فرص، العواصم المسيحية الثلاثة، إلى الفونج، الفور، تقلى..كما لاحظ د. غازى صلاح الدين متسائلا: لو أكملت التركية فترة حكمها، أو المهدية، أو حتى الإنجليز، طبيعيا، كيف كان سيكون حال السودان اليوم؟

هل يمكن أن نتفق على حد أدنى من الخطوط الوطنية التى يمكن أن تتطور – لاحقا – إلى أسس ومبادئ تحكمنا؟ ود الفكي، عضو السيادى الأكثر تهريجا، معلقا على خطاب البرهان الأخير ” لن نجلس إلى القوى التى دعمت الإنقلاب”..ومن المؤكد أننا لن نجلس إلى القوى التى شاركت الانقاذ، أو شاركت نميرى، شاركت عبود، شاركت سوار الذهب، شاركت عبد الله خليل…الخ..بإختصار لن نجلس إلا إلى أنفسنا. وهو نظريا وعمليا يجب أن يؤول كشك الليمون إلينا، أو ” ترق منهم دما، أو ترق كل الدماء”.

شايف كيف؟

حين وقع المؤتمر الشعبى مذكرة التفاهم مع الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق، وقعها المحبوب عبد السلام وباقان أموم، سنة ٢٠٠٠م، سأل الصحفى عادل سيد أحمد، حسن الترابى فى المؤتمر الصحفى ” كيف توقعون مذكرة تفاهم مع حركة أنتم على النقيض منها تماما؟”…أجابه الترابى ” وهل نوقع مع المتفقين معهم تماما؟ لماذا نجلس إلى الذين هم معنا فى الصف؟ إذا كانت الحركة الشعبية قد قتلت شخصا فى كل بيت سودانى – كما ذكرت – فذلك أدعى للجلوس معها والتفاوض والتوقيع، وليس العكس”..

مع من تريد ” قوى الثورة الحية” أن تجلس لتتفاهم على الخطوط الوطنية؟ لا أحد…ذلك أن كل حزب بما لديهم فرحون..لجان المقاومة بالنسبة إلى ٤ طويلة مثل الرجل والكلب فى زقاق ضيق ومظلم، كل واحد منهما يخشى غدر الآخر به..و ” حركات الكفاح المسلح” وهى تسمية رسمية بعد سقوط الإنقاذ ، صارت مجرد ” جماعة موز”..وثمة صارت الثورة السودانية جسدا يتخبطه الشيطان من المس، يضرب بعضه بأعضائه ذاتها، ويغرز أظافره الطويلة فى وجهه حتى يدمى، ثم يولول..

شايف كيف؟

“كشك الليمون” لن يصبح ملكية خالصة لأحد..شهادة البحث تثبت أنه ميراث عقيم، ملغوم ومسمم..مثل الفتاة باهرة الجمال..لن يسعد بها زوج أو حبيب أو زميل دراسة أو ود الجيران..الجميع يريدها خالصة له، حتى الأساتذة، سائقى الركشات وبتاع الترحال “خصوصا بتاع الترحال دا”…لأنو وهمى شديد..

شايف كيف؟

المهم..

إنتقلنا، فى الراهن، من قبح جواليص محمد الواثق المطلية بروث البقر، الصورة المكتملة للقبح السودانى، إلى مرحلة تهديم الجالوص ذاته، ليس لأننا نريد أن نبنى برجا، مثل برج إيفل أو برج خليفة، حتى.. وإنما لأن الجالوص بناه زوج أمنا الذى يتلمظ كلما أشعلت عيدان الطلح فى حفرتها، وأعدت له عشاء جيدا.. ولا نملك أن نطلقها منه.

شايف كيف؟

 

*ملحوظة:-

الصورة للكنداكة أمانى تيرى..أمنا بالتبنى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى