الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت ،،، وهكذا انتصرت الحلقة الرابعة عشر : الهجوم على بور واندلاع التمرد الثاني

بقلم / بابكر عثمان
استميح القارئ عذرا في الخوض بتفاصيل أكثر حول التمرد في جنوب السودان، لأن انفجار هذا التمرد في 16 مايو 1983 كان له تأثير كبير في تسريع انهيار نظام نميري بعد نحو سنتين من ذلك التاريخ.
كتب كثيرون سواء كانوا معاصرين لتلك الاحداث او مشاركين فيها او مراقبين لها عن احداث بور وكيف ان تمرد الكتيبة 105 وهروبها الى اثيوبيا كان نتيجة قيام نميري بتقسيم الجنوب الي ثلاثة أقاليم بالمخالفة لاتفاقية اديس ابابا لعام 1972، كما ان هروب العقيد جون قرنق العائد لتوه من الولايات المتحدة بعد حصوله على الدكتوراه جاء بمحض الصدفة، حيث يقول السيد جوزيف لاقو في مذكراته ص 483 ( إنه كان يشك في أن جون قرنق قد خطط للانضمام للمقدم كاربينو كوانين في تمرده الأخير ، فقد كانا بعيدين عن بعضهما ولم يلتقيا الا في عشية احداث بور) ويضيف انه التقى بقرنق في اديس ابابا في 11 يونيو 1987 في اول لقاء بعد تمرده حيث اخبره الأخير ( انه لم يخطط لما حدث في بور وأن كل شيء حدث بمحض الصدفة أثناء اجازته هناك ) آما السيد ابيل الير السياسي الجنوبي المشهور فقد كتب في كتابه المعنون ( جنوب السودان – الامعان في نقض العهود والمواثيق ) ) قائلا ( وقبيل ظهر السابع عشر من مايو زارني العقيد جون قرنق وهو في طريقه الى قريته في إجازة ، فأوضحت له ما في ذهابه من خطورة عليه ، إذ يصبح بين فكي القوات المتقهقرة وقوات الاحتلال ، فأفادني في ثبات وهدوء مدهش انه مطمئن على سلامته ولم اره بعد ذلك مطلقا ) صفحة ( 251 )
ولكن الحقيقة التي تنسف كل المعلومات المغلوطة السابقة تكشف ان ابيل الير كان وقتها في مدينة بور منذ نحو شهرين ، ورفض بشدة مغادرتها رغم محاولات الجيش في جوبا التحايل عليه للعودة للخرطوم ، ففي كتاب أصدره اللواء صديق البنا قائد الفرقة الأولى في جوبا والتي تتبع لها كل وحدات القوات المسلحة في الجنوب ذكر فيه معلومات تفصيلية ودقيقة عن أحداث تلك الفترة، ومن ذلك ، التنوير الخطير الذي قدمه الى الرئيس جعفر نميري في حضور المكون العسكري في مجلس الدفاع الوطني في القصر قبل نحو أسبوعين من الهجوم على بور لإخضاع الكتيبة 105 والسرايا التابعة لها في البيبور وفشلا.
ورد في خلاصة ذلك التنوير ما يلي ( لقد حضرت اليوم ومعي السيد رئيس المجلس التنفيذي العالي للطلب من سيادتكم وبناء على المادة (26) من قانون الحكم الذاتي الإقليمي الموافقة على القيام بعملية استباقية سريعة ومحدودة على سرايا الكتيبة ١٠٥ في بور والبيبور وفشلا التي تمردت وخرجت عن النظم العسكرية بشكل كامل وصارت تحت قيادة القوى الانفصالية في انتظار الأوامر للهجوم على جوبا بمعاونة قوات الشرطة والسجون وحرس الصيد والانانيا (2) لفصل الجنوب ) وأضاف خلال ذلك التنوير قائلا ( وأنني لا أذيع سرا اذا ذكرت بأن ابيل الير موجود الآن ومنذ أول مارس في بور ليقود المخطط و قد دعى عددا من الضباط الدينكا ومنهم جون قرنق الى بور لانتزاع القيادة من النوير بقيادة صامويل قاى توت ) و ختم البنا تنويره قائلا ( سيدي الرئيس ارجو أن اختم حديثي بأن التمرد الثاني واقع ،،، واقع، وإذا نفذنا هجومنا على القوات المتمردة أولا بالضربة الاستباقية فسوف ننقذ حياة كل الشماليين بالإقليم الجنوبي ( 80 الف شمالي ) و ارجو لكم التوفيق لاتخاذ القرار السليم الحاسم ) من كتاب ( الجنوب ،، معضلة الأمن القومي السوداني ) للواء صديق البناء ص 354
كما ذكرت في الحلقة السابقة فقد بدأ جون قرنق رحلته الى الجنوب في 23 ابريل بوصوله أولا الى ملكال ومنها الي جوبا والتي قضى فيها أسبوعا في الاستراحة الملحقة بمنزل العميد لورنس لورو نائب قائد الفرقة الأولى وكان تحت رقابة الاستخبارات العسكرية، والتقى مصادفة باللواء صديق البنا في تلك الاستراحة قبيل مغادرة الأخير الى الخرطوم لتقديم تنويره الى القيادة العسكرية لانتزاع موافقة بشن هجوم على بور ، وكان البنا يعرف ان هناك دعوة للضباط الدينكا في القوات المسلحة للقدوم الى بور ، فحذر قرنق من السفر الى هذه المدينة ثم ابلغ الاستخبارات العسكرية بمراقبته ومنعه من السفر وإن اقتضى الامر وضعه في الإيقاف العسكري ولكن قرنق وبمساعدة من الرائد اروك طون اروك ( ممثل القوات المسلحة في مجلس الشعب الإقليمي ) تمكن من التخلص من الرقابة العسكرية ، ليمتطي سيارة لاندروفر ويهرب بها الى بور في الخامس من مايو 1983 ، وهناك شارك السيد ابيل الير السكن في الاستراحة الحكومية في غرفة واحدة كما شاركه في حضور اجتماعات تم عقدها مع ضباط و جنود الكتيبة ١٠٥ وأيضا مع بعثة هولندية كانت مقيمة في بور لتنفيذ مشروع زراعي ، كما اجتمع أيضا مع ممثل لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي واسمه وايتي فوستر ( الذي تسلل الى بور من جوبا دون علم الحكومة وعقد اجتماعات هناك ) ويبدو ان السيد فوستر ابلغهم بموعد الهجوم على بور والمقرر له صبيحة السادس عشر من مايو.
في الخرطوم وبمجرد الانتهاء من التنوير الذي قدمه صديق البنا في القصر الجمهوري في تاريخ 5 مايو 83 اتخذ الرئيس جعفر نميري رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحه قراره الحاسم بالموافقة على شن هجوع على بور لإخضاع سرايا الكتيبة 105 وحسب اللواء صديق البنا ( فقد تحدث السيد الرئيس حديثا قصيرا وهو ينظر الى الفريق توفيق ابوكدوك رئيس هيئة العمليات قائلا : اتركوا قائد الفرقة ينفذ خطته دون تدخل وقدموا له كل العون الذي طلبه من القيادة العامة ثم نهض وخرج ) من الاجتماع.
وافق الفريق توفيق ابوكدوك – وقد كان معارضا لشن ذلك الهجوم – على الطلبات التي قدمها اللواء صديق البنا لاقتحام بور وإخضاع الكتيبة ١٠٥ ولكنه تجاهل طلبا رئيسيا وهو توفير طائرتين عموديتين مهمتهما منع القوات المتمردة من مغادرة المدينة وقتل قادتها في حال محاولة الهروب.
في صبيحة السادس عشر من مايو كانت قوات تم تجميعها من الشمال و من جوبا بقيادة العقيد دومنيك كاسيانو ( اصبح فيما بعد عضو في مجلس قيادة الإنقاذ ) تقتحم بور وتشتبك مع الكتيبة 105 ، غير ان الكتيبة لم تصمد طويلا وبدأت في الهروب حسب خطة مدبرة الى الحدود الأثيوبية ، يقول اللواء صديق البنا ( كان الألم يعتصرني وانا اسمتع الى نداء العقيد كاسيانو ) من مقر العمليات في جوبا ( وهو يطلب تدخل الطائرتين العموديتين لمطاردة قادة الكتيبة قبل حلول الظلام ، لمنعهم من الهروب الى الحدود الأثيوبية ) يضيف اللواء البنا ( لقد خذلنا الفريق ابوكدوك بعدم ارسال الطائرتين ، بل وخذل القوات المسلحة التي وضعه القدر على قمة قيادتها وأخطرها حساسية وأنه سوف يتحمل كل تداعيات ونتائج ذلك في الحياة وبعد الممات )
للعلم الفريق توفيق ابوكدوك (1923 –2009) كان ضابطا في الجيش المصري، وبعد الحاح منه تم ضمه للجيش السوداني عام 1958 وتدرج في الرتب الى ان أصبح برتبة الفريق وكان رئيسا لهيئة العمليات في القوات المسلحة عشية اندلاع التمرد الثاني وهروب جون قرنق من بور دون ان تعترضه القوات المسلحة.
اذن اندلع التمرد في الجنوب مجددا وبدأ في التوسع والانتشار
أما الرئيس نميري فقد مضى في خططه بإصدار الأمر الجمهوري رقم واحد في 5 يونيو 83 بتقسيم الجنوب الى أقاليم ، ثم في 18 سبتمبر بإعلان تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية وفي 10 ابريل 1984 بإعلان حالة الطواري وتطبيق ما اطلق عليه برنامج العدالة الناجزة وبدأت محاكم الطوارئ في قطع الايدي والأرجل من خلاف ( 200 حكم بقطع الايدي خلال عام واحد ).
أما الشعب السوداني فقد انهكه التدهور المريع في الأحوال المعيشية والقهر والاستبداد، ولم يكن ينتظر سوى شرارة الاندفاع الى الشوارع
في الحلقات القادمة تفاصيل دقيقة عن انطلاق شرارة الانتفاضة والتداعيات الخطيرة والتي أدت الى عزل الرئيس نميري وسقوط ما أطلق عليها طيلة ستة عشر عاما ب ( ثورة مايو )
تابعوني