د. الصديق:المكي أحد العشرة المبشرين بالخلود

كتبت/ ابتهال تريتر
في أمسية جماهيرية بالغة العذوبة استضاف بيت الشعر الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم الدبلوماسي والمفكر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ونحت عميقا في وجدان أهل السودان بحرفه المذهب ومواقفه الشامخة، شاعر الأكتوبريات الذي عهدته الشوارع راسما خريطة التفرد والكفاح مختارا أجمل تلوينة وتلويحة لا تنساها الأعين.
الحضور لوحة فريدة من المثقفين والسياسيين ورواد المشهد وسط تصفيقات وإعجاب وترحيب أخرج اللغة من مخابئها وأوقد قناديلها ومتن روافدها وأيقظ روحها وأحيا شبابها
ابتدر الأوراق الأستاذ صديق محيسي وهو ممن جايل الشاعر محمد المكي في كل مراحل حياته وهو أحد عناصر المشهد الثقافي المهاجرة وقد وقف حول الأكتوبريات ومابعدهافي نقاط نقدية حية
بروفيسور محمد المهدي بشرى أفرد مساحة للسودانوية وارتباط المكي بها واتجاهاته معبرا عن هذه الروح في منتوجه
وتحدث عن تطور الشعر في تجربة الشاعر من تقريرية لتجريدية لغيرها
وقال إن المكي ممن أضافوا لحركة الحداثة في القصيدة العربية كلها
شارك محمد الخير إكليل من ديوان أمتي وديوان يختبئ البستان في الوردة و قرأ
كيف ترتحل الآن التي قدمها في رثاء المجذوب الذي برحيله ينفصل الجمر عن صندل الشعر
لا تزال العذوبة كائنة حيث كنت
لا تزال الموائد مثقلة بأفاويق شعرك
والحان يرقص
فالزمر والطبل بعض قوافيك
والكحل فى الأعين النجل بعض هداياك
والعشب فى شفة النيل بعض صنيعك طبت صنيعا
وطابت بمحياك أرض الوطن
أظلمت بوابة الشعر وأبواب الفراديس أضأن
لا تزال العذوبة كائنة حيث كنت
العذوبة
والدمع والشاعرية
الحدائق واجمة لرحيلك قد بلل الدمع أثوابها
المقاهى تغادر أحبابها
والقصائد محلولة الشَّعر، كاشفة النحر
تخرج نائحة فى الطريق
***
كيف ترتحل الآن؟ إن المتاريس منصوبة والعدى حُضَّرٌ
وجنود من الشعر يأتون صوبك من كل فج عميق ..
كيف ترتحل الآن عن وطن اليأس والشعر
نحتاجك الآن أكثر مما مضى.
من سواك ليفرط رمانة القلب حزنًا
لأجل الصبايا تجرجر أسمالها
والولايا تنوء بأحمالها
والصغار يعودون من مولد عامر بالغبار
من سواك يقود الخوارج في غزوة لثغور العدى
يستعيد بها الوطن المتخثر بعض رجولته الضائعة .
المجاذيب أهلوا قمرًا بعد قمر
أما الشاعر كامل عبدالماجد يقول أنا جايلت أفذاذ الشعر السوداني وقد أتوا من رحم المدارس بكل جاهزيتهم وبكل أدوات الشعرية المكتملة وقصيدة قطار الغرب في ديوان أمتي فيها جل العلوم الانثربولوجية والجغرافيا ومعارف جمة وقد نعى زمان شعراء السودان الكبار وعلق أسئلة على جيد السودان المجيد وأن هذه الاجيال أجيال الحرب ثم قرأ نصا منسيا لمحمد المكي اسمها( مرثية)
قرأت ابتهال تريتر من ديوان يختبئ البستان ومن ديوان بعض الرحيق قصيدة الديوان نفسها
الله يا خلاسية
يا حانةً مفروشة بالرمل
يا مكحولة العينين
با مجدولة من شعر أغنيَّة
يا وردة باللون مسقيَّة
بعض الرحيق أنا
والبرتقالة أنت
يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين
يا بعض زنجيَّة
وبعض عربيَّة
* * *
من اشتراك اشترى فوح القرنفل
من أنفاس أمسيَّة
أو السواحل من خصر الجزيرة
أو خصر الجزيرة
من موج المحيط
وأحضان الصباحيَّة
من اشتراك اشترى
للجرح غمداً
وللأحزان مرثيَّة
أفاد.د. أسامة تاج السر عدد قصائد ديوان أمتى وقال إنهاضعف ما أنتجه في دواوينه الأخرى وعلق على عروض المكي متنقلا بين الرجز والرمل والكامل والمتدارك والوافر والمتقارب وهذه بحور استوعبت التفعيلة كثيرا ومع تفعيلة فاعلن التي لها الأثر الكبير في شعرية المكي وأن المكي شاعر عمود أعدم قصائده ولم يظهرها وهي مملوءة بالهتافية والثورية
لكن الصورة الشعرية لم تبارح الشاعر في كل دواوينه
وللمكي قصائد تجاوزت المبنى للمعنى والانتقال العروضي تأتي بها المعاني وحدها واستدل بقصيدة كيف ترتحل الآن التي رثى بها المكي محمد المهدي المجذوب وفي النص انتقالات متعددة
ثم عرج على قصيدة بعض الرحيق وانتقالاتها المتعددة وأن المعاني هي التي تتحكم في نصه وقد بلغ المكي الكمال الموسيقي في ديوان لاخباء للعامرية الذي لم يكن فيه تداخل أبدا مايجعلها في درجة عالية من الصفاء والنقاء
الدكتور الصديق استعرض سيرة المكي في تقديمه بنمذجة ونقاط نقدية وإفادات مهمة ولعل أبرزها أن محمد المكي من العشرة المبشرين بالخلود في الشعر السوداني وأن مدرسة الغابة والصحراء أسسها الشعراء وهم طلاب في جامعة الخرطوم ووعد بإصدار كتاب عن الشاعر يليق بمسيرته
تناول المناظر رامي عثمان كتاب أصول الفكر للمكي وهو كتاب محقق وقدم مقاربة بين الشاعر والمفكر معتمدا على المنهج في تحقيبه واستطراده وفكرة الهوية كانت محورية في كتابه ومصادر الكاتب ونظريات تعاقبت عليها العقود وان ثنائية درويش وإدوارد سعيد هي أنموذج مشابه ثم وقف على بعض الاسقاطات التاريخية المهمة للمفكر
في ختام الأمسية تحدث الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم شاكرا لبيت الشعر هذه الحفاوة واهتمامه باللغة العربية وهذا المستوى الراقي للأجيال المتعاقبة وأنه وجد كل هذه الكوكبة المتنوعة وشكر النقاد وعبر بلغة رصينة عن امتنانه لهم وأنهم على امتداد تاريخي أكثر مما استحق وقال غمرتموني بأطنان الورد ومن الورد ماقتل واختتم الفنان عاطف عبدالحي بتوقيعات غنائية رائعة أطربت الحاضرين.