مقالات

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت وهكذا انتصرت الحلقة التاسعة

بقلم / بابكر عثمان

 

نواصل في هذه الحلقة ما انقطع من حديث حول الانتفاضة السودانية عام 1985، ففي الحلقة السابقة تعرضنا لملامح من سيرة المناضل الشرس الشريف حسين الهندي والذي لم يهادن نظام مايو حتى وفاته عام 1982 قبل ثلاث سنوات فقط من انتصار الشعب على حكم الرئيس السابق جعفر نميري ولكن اثنان من ابرز معارضي نميري وهما ( الصادق المهدي وحسن الترابي ) قبلا دعوة نميري للمصالحة عام 1977

كان نميري وبعد فشل المعارضة في الإطاحة به في هجوم مسلح على الخرطوم عام 1976 قرر ان يجرب اتجاها اخر في التعاطي مع الاحزاب المعارضة ( حزب الامة – الاتحادي الديمقراطي – جبهة الميثاق الإسلامي ) فأجرى تعديلات في نظامه عين بموجبها اللواء عمر محمد الطيب رئيسا لجهاز الامن ، واطلق سراح معظم السياسيين المعتقلين ومنهم د. حسن الترابي ، ثم التقى لاحقا في 1977/7/7 بالسيد الصادق المهدي رئيس الجبهة الوطنية المعارضة.

قضى الترابي سنين طويلة في معتقلات مايو أكثر من أي زعيم سياسي اخر في ذلك الوقت ، فقد تم اعتقاله في عشية نجاح انقلاب مايو 1969 وبقي في المعتقل مع عدد من اتباعه نحو خمس سنوات ، ويقال ان فكرة الجنوح الى السلم راودته في محبسه عام 1971 عقب فشل الشيوعيين في الإطاحة بالرئيس نميري وتشاور في ذلك مع الدكتور الطيب زين العابدين ( أحد أعضاء جبهة الميثاق الإسلامي ) كما ان تجنيد ضباط في القوات المسلحة للانضمام الى حركة الاتجاه الإسلامي أيضا تبلورت في السجن ويعتقد ان الفكرة صدرت عن الأستاذ يسن عمر الامام ، عضو الحركة الاسلامية والمعتقل معه في السجن ( 1970 ) ويبدو ان الشيخ حسن الترابي بقي مقتنعا بضرورة الشروع في توسيع قاعدة الحركة بضم عسكريين اليها وكذلك وجوب المصالحة مع النظام القائم لإتاحة الفرصة للعمل الحر بعيدا عن ضغوط الأمن.

ويبدو ان تلك الاستراتيجية قد نجحت الى حد بعيد ، ففي عام 1977 خرج الترابي من السجن ليوقع اتفاقا مع الرئيس نميري دخل بموجبه هو وعدد من كبار مساعديه الى الاتحاد الاشتراكي ( الحزب السياسي الحاكم الوحيد) كما تم تعيين عدد من مساعديه في البرلمان ( مجلس الشعب القومي ) على سبيل المثال ظل (علي عثمان محمد طه) رائدا لمجلس الشعب حتى عام ١٩٨٥ ، كما تولى السيد احمد عبدالرحمن محمد منصب وزير الداخلية لعدة سنوات ( 80 -1984 ) ويقال ان فكرة التجنيد الاجباري للشباب هو من اقترحها واقنع بها الرئيس نميري لإجبار أبناء الشمال علي الانضمام للقوات المسلحة. أما الترابي نفسه فقد تولى عدة مناصب منها النائب العام كما تولى ايض مستشار الرئيس للشؤون الخارجية، وعضوية مجلس الدفاع الوطني.

بالطبع لم يعر الترابي هذه المناصب اية أهمية تذكر وكان يقول عن منصبه مستشارا للشؤون الخارجية ضاحكا (كنت مستشارا ولكن لم يصلني تقرير واحد من وزارة الخارجية) فيما يكشف الفريق صديق البنا عضو هيئة الأركان في عهد نميري ان اجتماعا رفيعا لمجلس الدفاع الوطني عقد في فبراير ١٩٨٣ وتمخض عن قرارات استراتيجية خطيرة بشأن الجنوب لم يكن الترابي مدعوا له وهو عضو ذلك المجلس .

رغم الكلفة السياسية والتنظيمية الهائلة التي ترتبت على الدخول في مصالحة شبه فردية مع نظام نميري حيث حدث اول انشقاق في الحركة بين مؤيد للمصالحة ( حسن الترابي) ومعارض لها ( صادق عبدالله عبدالماجد) الا ان هذه المصالحة وضعت الاتجاه الإسلامي في اول طريق الصعود الى السلطة
يعتبر الترابي دون ريب احد أذكى السودانيين في ذلك العصر ويبدو ان هذا الذكاء وهذه الشجاعة قد ورثها عن جده التاسع حمد النحلان الترابي والمتوفي عام 1704 والذي يقال انه ادعى النبوة او على اقل تقدير أدى انه المهدي المنتظر حسب طبقات ود ضيف الله ، وقد كان هذا الشيخ في صراع متصل مع ملوك دولة الفونج ( مملكة سنار ) ونقل عنه قوله وهو على فراش الموت ( بعدي العيلة ماب يقدر عليهم زول ) .

اطمئن الرئيس جعفر نميري أشد الاطمئنان على مستقبله في الحكم وهو يستقبل أعوانه الجدد في القصر الجمهوري ( الصادق المهدي ثم حسن الترابي ) و رغم ان المهدي لم يستمر طويلا في هذه المصالحة ، إذ انتهز فرصة مصالحة مصر مع إسرائيل وتأييد نميري لتلك الخطوة ليخرج هو من مصالحته مع نميري بينما بقي الترابي متصالحا أو اذا صح التعبير ( متخفيا وراء المصالحة ) لتنفيذ اكبر عملية تمكين سياسي واقتصادي و تنظيمي في السودان.

ففي 23 سبتمبر 1984 استفاق النظام على حقيقة خطيرة وهي ان تنظيم الاتجاه الإسلامي بقيادة د. حسن عبدالله الترابي أصبح تنظيما خطيرا ، ففي صباح ذلك اليوم نظم الاتجاه الإسلامي مظاهرة ضخمة اطلق عليها مليونيه تأييد الشريعة الإسلامية في السودان ، ولم يحشد التنظيم لتلك المظاهرة الشباب والنساء فقط ( أكثر من 500 الف متظاهر ) ولكنه حشد شخصيات إسلامية دولية وشخصيات عامة عالمية ، كنت وقتها عضوا في الاتجاه الإسلامي، ،شاركت في تلك التظاهرة ولاحقا التقيت وسلمت على الزعيم الافغاني عبد الرسول سياف ، كما القيت التحية والسلام على بطل الملاكمة العالمي محمد علي كلاى وكان وقتها مصابا بمرض باركسون فمد الي يده المرتجفة ، تلك اليد التي أطاحت بأبطال الملاكمة خلال عقد السبعينات ، كما القيت التحية أيضا على الصحفي البريطاني الشهير بيتر مانسفيلد ( إذاعة بي بي سي )
فخلال السبع سنوات السابقة على ذلك التاريخ تمكن التنظيم من تنفيذ استراتيجية تقوم على الركائز التالية:
كف يد أجهزة الامن والشرطة في مطاردة أعضاء الحركة الإسلامية ومنعهم من التجمع او عقد الاجتماعات
تغلغل الحركة في أوساط الطلاب والنساء والحركات الصوفية
تجنيد عشرات الضباط في القوات المسلحة وتشكيل خلية تنظيمية داخل الجيش
بناء قاعدة اقتصادية ومالية متينة حيث تم تأسيس البنوك والشركات الإسلامية، مما أعطى التنظيم قوة مالية عظيمة وفي نفس الوقت كانت هذه المؤسسات المالية وكرا لعقد الاجتماعات التنظيمية كما انها أيضا وفرت وظائف لعضوية الحركة من خريجي الجامعات، إضافة بالطبع لتمويل الأنشطة السياسية والاجتماعية والتنظيمية
• تأسيس علاقات سياسية وتنظيمية كبيرة مع الخارج وذلك من خلال المنظمات الطلابية الدولية والمنظمات الاغاثية ( منظمة الدعوة الإسلامية – المنظمة الإسلامية الافريقية للإغاثة – هيئة الاعمال الخيرية الإماراتية )
وبدأت العلاقة منذ ذلك الوقت تتخذ شكل الارتياب والشك وبدأ النظام يراقب عن كثب تحركات التنظيم الا ان وقع المحظور في فبراير 1985 عندما اعتدى أعضاء التنظيم في جامعة الخرطوم على أعضاء اتحاد الجامعة على خلفية انشقاق طالب إسلامي على التنظيم وقيام الاتحاد بالترويج لبيان الطالب المنشق (راجع الحلقة الثالثة) .

وانتهت تلك العلاقة التصالحية بقيام نميري باعتقال الترابي وعددا من مساعديه في 17 مارس 1985، يقول الترابي عن ذلك الاعتقال انه ( كان مفاجئا تماما حتى ان النظام نسي اصدار مراسيم بالعزل عن المناصب الدستورية، وفعل ذلك لاحقا.) ويتذكر الصادق المهدي ان الترابي اجتمع به في مطلع مارس من ذلك العام بناء على طلب الأخير لينقل له ان الرئيس نميري التقى به وكانت المقابلة ودية للغاية على غير العادة وان الترابي يتصور ان هناك فرصة لتجديد المصالحة ولكنني يقول الصادق المهدي ( رفضت ذلك ).

وسافر الترابي بعدها الى مدينة العين في ابوظبي لتقديم محاضرة في جامعتها وعند عودته زاره رجال الأمن في اليوم التالي في منزله وألقوا القبض عليه ليقضي في المعتقل نحو شهر كامل قبل اطلاق سراحه بعد نجاح الانتفاضة

في الحلقة القادمة نلقي الضؤ على مواقف الصادق المهدي من نظام مايو
تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى