انتفاضة 1985 – هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة الخامسة – شخصية نميري المضطربة
بقلم/بابكر عثمان
قبل ان نسترسل في رواية تفاصيل الحراك الشعبي القوي الذي اجتاح العاصمة الخرطوم وبعض مدن السودان في مارس – ابريل 1985 وادى في نهاية المطاف الى عزل النميري واستيلاء القوات المسلحة على السلطة، دعونا نلقي نظرة متفحصة على شخصية الرئيس جعفر نميري، فعدد كبير من المحللين ومن رواة ذلك التاريخ يعتقدون ان شخصية نميري الدرامية والمليئة بالتناقضات أسهمت بقدر كبير في تشكيل النهاية المأسوية لنظامه.
في صبيحة أحد أيام 1986 وكنت حينها أعمل صحافيا في جريدة الأضواء التي يملكها ويرأس تحريرها الأستاذ محمد الحسن احمد ، زارنا صحافي سوداني مغترب يعمل في جريدة القبس الكويتية وهو يحمل نسخا من كتاب ألفه بعنوان ( نميري – الإمام والروليت ) اعتقدت للوهلة الآولى ان ذلك الكتاب والذي يتحدث عن فترة مايو منذ استيلائها على السلطة في عام 1969 مجرد كتاب دعائي ضد مايو ، فلم أعره اهتماما، ووضعته في رف مكتبتي كذكرى حوت توقيع مؤلفه والذي فارق الحياة بعدها بسنوات قليلة ، ولكنني عندما عدت لقراءة ذلك الكتاب بعد نحو 30 عاما من صدوره اكتشفت انه كنز في سرد وتحليل معلومات دقيقة عن مراحل حكم السودان في عهد نميري وعن شخصية نميري نفسها.
يقول بابكر حسن مكي مؤلف كتاب ( نميري – الإمام والروليت ) توفي عام 1990 أن الرئيس نميري كانت تحرك شخصيته ثلاثة صدمات نفسية حدثت خلال الفترة التي سبقت صعوده الى السلطة ولازمته طوال فترة حكمه.
الصدمة النفسية الأولى كانت فشله في اجتياز امتحان الشهادة السودانية من مدرسة حنتوب الثانوية عام 1953، المؤهل لدخول كلية غردون (جامعة الخرطوم لاحقا) ومع ذلك يكشف الصحافي بابكر حسن مكي (فإن الرسوب في امتحان الثانوية لم يعرقل مسار حياته، فدخل الكلية العسكرية بشهادة كانت مادتا النجاح الوحيدتان فيها هما التاريخ والتربية الرياضية )
وأشار الى أن هذه (النكسة كانت أكبر من ان تلفها الأيام) و ظهر ذلك جليا في الاحتفال باليوبيل الذهبي لمدرسة حنتوب والذي صدف ان نميري كان الحاكم الأوحد للسودان وبعضا من زملائه في تلك المدرسة كانوا يعارضونه بشدة ومطلوب القبض عليهم ، فأصدر قرارا بالعفو عنهم لمدة يوم واحد لحضور الاحتفال ومنهم زعيم الحزب الشيوعي آنذاك محمد إبراهيم نقد
ظهر نميري خلال ذلك الاحتفال وسط حشد كبير من رواد هذه المدرسة الشهيرة ليبعث برسالة لمن (سخر من نتيجة امتحاناتي عام 1953، هانذا بينكم لم أفشل في حياتي ، بل انني اليوم رئيسا لكل هذه البلاد بمن فيهم انتم جميعا )
الصدمة النفسية الثانية، حسب مؤلف كتاب (نميري – الإمام والروليت) هي موت امه وابيه في حادث انقلاب سيارة ولم يكن نميري قد تسلم مهامه العسكرية تماما ويبدو ان هذا الفقد وفي الظروف التي جرت فيه، كان له تأثير عميق جدا على نفسية الرئيس نميري فيما بعد.
وبعدها كانت الصدمة الثالثة حيث لم يجد النميري حلا لتناسي رحيل والديه المأسوي ، سوى الزواج من ابنة خاله السيدة بثينة خليل والتي توفي والدها بعد الزواج بقليل في حادث حركة أيضا وكانت الصدمة أن النميري مصاب بالعقم ، يقول الصحافي بابكر حسن مكي ( بقدر ان هذه الصدمات النفسية الثلاث ذات وقع قاصم على شخصيته، بقدر ما افرزت كل واحدة منها معنى جديدا في حياته ، فالرسوب دفعه الى عشق الصدارة ، اما مصرع والديه فقد فجر فيه محيطا من الدموع لا يحتاج ذرفها سوى موقف درامي خاطف ، أما العقم فقد فجرت في نفسه حب المغامرة واقتحام المجهول )
المرض
ان الحياة الصاخبة التي عاشها النميري منذ اليوم الأول لتسلمه للسلطة وانفراده بها دون زملائه في مجلس قيادة الثورة و كل تلك التوترات التي مر بها خلال عشر سنوات لابد ان تنعكس على صحته بشكل او آخر ، فظهرت اولي متاعبه الصحية عام 1982 عندما أصيب بضغط عال في الدم ، فتوجه الى الولايات المتحدة للعلاج وحسب كتاب بعنوان ( علم نفس المخابرات) لمؤلفه عمر هارون الخليفة أن الرئيس نميري عاد ( بعد إجراء جراحة في شرايين متصلة بالرأس وكانت الجراحة لنوع من الضغط العالي اشتهر به الحكام ورجال الأعمال وأصحاب المسئوليات الجسام.) يضيف الكاتب ( توجب عليه أن يتعاطى عقارا معينا لهذا المرض وهو عقار قوي ويتم تناوله مرتين و في أيام محددة من الأسبوع.) وحسب مقربين منه فقد نصحه الأطباء عند تعاطي هذا العقار بالخلود الى الراحة التامة وألا يقوم بإصدار أي قرارات متعلقة بالعمل)
وكشف الكاتب نقلا عن ضابطين في جهاز الأمن أصدرا كتابا فيما بعد أن أحد دبلوماسي السفارة الأمريكية في الخرطوم آنذاك أبدى انزعاجه الحقيقي من تحرك الرئيس نميري أثناء فترة العلاج وقال إن الرسالة التي حملها له الأطباء بأن هذا الدواء خطير وخطير جدا عليه وعلى الدولة، لأن (الدواء يجعل الجسم والعقل مسترخيان وفي حالة أخرى كمن يتخذ قرارا وهو نائم.)
واتهم ضابطا الأمن وهما (محمد عبدالعزيز و هاشم أبورنات ) في كتابهما المشترك بعنوان ( اسرار جهاز الأسرار ) أن بعضا من كبار المسؤولين حول نميري عرفوا عن تعاطيه علاجا معينا يجعله غير متزن في اتخاذ قراراته وبذلك عرفوا نقاط ضعفه فاستغلوا لحظات ضعف الرئيس نميري لإصدار كثير من القرارات التي لم يبد في الأمر أن لهم يد فيها) وطرح الكاتب خليفة عددا من التساؤلات حول هوية الدبلوماسي الأمريكي الذي أبدى انزعاجا من تحرك الرئيس نميري أثناء فترة العلاج؟ وهل هو خبير في وكالة المخابرات الأمريكية؟ ومن هم الأطباء الذين أخطروا نميري بأن هذا الدواء خطر عليه؟ هل هم أطباء بالمخابرات الأمريكية؟ وما هي عينة الدواء التي تجعل الجسم والعقل مسترخيان؟ هل مثل أحد الأدوية المستخدمة في (غرفة النوم) الشهيرة في دراسات المخابرات؟ وما هي علاقة الاسترخاء بموضوع النوم؟ هل كان نوما عاديا بتأثر كيميائي للدواء؟ أو نوما من نوع آخر؟ وكيف يكون الدواء خطرا على الدولة؟ هل كانت النتيجة هي التغير في شخصية نميري من خلال القرارات الصادرة والمنفية في اليوم نفسه؟ وذلك خلافا لمقولة نميري الشهيرة حول أن الثورة تراجع ولا تتراجع. ؟ وما الذي أحدث هذا التراجع؟ ما هي علاقة ضعف نميري بعد تناول الدواء وبين عملية تغيير التفكير الحادثة؟ هل لذلك علاقة بغسيل الدماغ؟ هل تمت وفق تقنيات علم النفس أو وفق عمليات التغيير الايديولوجي؟ وختم الكاتب بقوله (تحتاج هذه العينة من الأسئلة وغيرها لأجوبة ربما لم تتوفر في الوقت الراهن)
رواية الصحفي هاشم كرار
ولج هاشم كرار الى جريدة الأيام عام 1978 عقب تخرجه مباشرة من جامعة امدرمان الإسلامية و غطى الاحداث السياسية بأسلوبه الساخر وعناوينه المميزة واستمر في العمل لم يتوقف عنه إلا خلال يوم واحد عندما أعلنت نقابة الصحافيين اضرابها عن العمل في عشية الخامس من ابريل قبل يوم واحد من سقوط النظام عام 1985، ويعكف حاليا على طباعة كتابه المعنون ( كلام ما ساكت ) مؤرخا عن مشاهداته وتحليلاته لتلك الفترة المفصلية في تاريخ السودان و تحدث في هذا الكتاب عن رواية نسبها الى السفير السوداني السابق احمد عمرابي والذي كان يعمل في رئاسة الخارجية عام 1983 حول قيام السفير الأمريكي بطلب الاجتماع مع الرئيس نميري في مكتبه بالقصر الجمهوري وجاء السفير يحمل أوراقا تبين لاحقا انها تقارير طبية من المستشفى الذي تعالج فيه الرئيس نميري في العام 1982 ويرافق السفير موظف من سفارته يحمل جهاز تسجيل كبير وحضر السفير عمرابي ذلك الاجتماع حيث طلب السفير الأمريكي من نميري التقاعد على خلفية تقارير طبية أمريكية تكشف انه يعاني من مشكلة تتعلق بصعوبات تدفق الدم الى رأس الرئيس ، وأن طلب التقاعد صادر من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ( 80-1988 ) وحسب هذه الرواية فقد رد الرئيس نميري بغضب وهو يقول ( (هذا الطلب، أنا أعتبره تدخلاً من الرئيس ريغان، في شؤون السُّودان. أنا جعفر نميري، لا أتلقى تعليمات من ريغان، أو من غيرِ ريغان. أنا الذي يُقرِّرُ متى أتقاعد.)
في الحلقة القادمة وكالة الاستخبارات الامريكية تتنبأ بقرب زوال حكم الرئيس نميري
تابعوني