
بقلم/محمدعكاشة
تلتقيني في الرحاب عند مقامِ الرحيل تُعزيني ومُقلةٌ لم تعرفِ التذّراف يوماً وماشُوهدت قطُ باكية.
السيّدة سارا نقدالله قبل ستةِ أعوام تُعزيني في وفاةِ والدتي الحاجة قمر بت الخليفة عبد الرحمن وديوسف مُقدم الشيخ دفع الله الغرقان.
ومن مِثلُها= سارا = يعتزي المرءُ بعزاءها وبدعُاءها المُستجاب.
سارا تقول يومذاك:-
(يامحمد..جبر الله كسرك وألزمك الصبر الجميل.
ياحبيب..أمُي رحلت قبل ستة عشر عاماً ولكن حتي هذه اللحظةِ لم يبرحْ الحُزنُ مقلتي.. لكأنما رحلت البارحة).
للذي يقرأ..
أرجوه معذرتي.. سوف أتفشي بالكتابة في مقام المحبة.
مطلعُ نوفمبر 2020م بمكتبِ الزميل عثمان شبونة ألتقي بعد انقطاعٍ الصديق أمير احمدالسيد.
أمير كعادته يعبرُ بالأنس إلي عالم ( الموت ) في زمان الكورونا بالقول:-
(الموتُ عالمٌ عجيب..لماذا الخوفُ منه والجزع الشديد؟!..
منذا الذي عبرَ إلي الضفةِ الأخري وعاد يُحدثنا بأن منافيخ النار والعذاب تنتظرنا.
الناسُ مقسطون وصالحون يعبرون إلي ربٍ رحيم غفور..
رحمة ربنا أعظم من شقاء هذه الدنيا)..
ثم من بعدِ حديث أمير وشبونة أقرأُ خطبةً في مقام الوداع تكادُ تتقصدني وتتقصدُ السيدة رباح الصادق الصديق وحالها لسان الخنساء تماضر بنت عمرو السّلمية تقول:-
( يا عينِ جودي بالدّموعِ الغِزَارْ وأبكي على أروعَ حامِي الذّمارْ
ثم الخطبة التي تشجيني تهزني خاتمتها :-
(..ولكن أمرين هما بلسم الحياة: الإيمان بالله بما في سورة الجن (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ) ..
والثاني حب الناس:
إن نفساً لم يُشرق الحبُ فيها.. هي نفسٌ لم تدرِ ما معناها
صحيحٌ بعضُنا أحس نحوي في المرض بالشماتة ولكن والله ما غَمرني من محبةٍ لا يُجارى، وقديماً قيل:
ألسنة الخلق أقلام الحق.
5 نوفمبر 2020م
الصادق المهدي..)
ياالله..
ثم ..فجرُ الجمعة والتي لم أنم ليلتها وقفتُ بمحطةِ خليفة بالثورة منذ السادسة صباحاً.
أمدرمان كلها واجمة.
ساعةٌ وبضعُ دقائق حتي نحظي بسيارة هايس يقودها شابٌ ظاهر الوضاءة ناضر الوجه غيرأنه محزون.
عند الحارة الخامسة يصعُد رجل مسن في ( أنصارية) لامعة وعُمامة معكوفةُ الذنب ثم الحبيب عروة الصادق.
حين بلوغنا محطة الشهداء يرمقُنا السائق بنظراته ويقول:-
أنا ماشي القبة.. القبة البتضوي الليل.. ليستثيرَ الحزنَ الكامنُ فينا والدافقُ في الأحداق.
مضيتُ إلي الملازمين..البيت الكبير (الباب المفتوحُ ) علي الدوام يدلفُه السيد مبارك عبدالله الفاضل ومجدي عبدالعزيز ودرويشٌ يرجحنُ وأبناء أمدرمان والحفيدة (رحمة) دامعةُ العينين.
كان يوماً مهيباً.
لم ينشغلَ الناس بالاجراءات الاحترازية من جائحة كرونا.. فالرجلُ يفتدي الناس بروحه ووقته وصحته.
ثم..الأستاذة لبني يوسف تُعزيني عزاءاً:-
(شفت يامحمد.. أبوك الكان بيحترمكم ويقدرك مشي..)
لبني يوسف أهاجت شجوي وأحزاني لفقدي ياسر وامل عكاشة ووالدتي وأبي.
أهاجتها بالدموع والشجن والذكريات الأليمة.
ستونَ عاماً فضها الرجل كفاحاً لأجل الوطن والمرأة والناس.
لسانهُ لم يذكر به عورةَ إمريء وألسنةُ الناس تنتاشهُ من كل جانب وهو يرقي في المقامات و ( المؤمن ليس بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء)
ثم هو ينهضُ يحدوه هَديّ المعصوم:-
“إنما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ”.
اللغةُ الرصينةُ صِنعةُ والدي الدكتور عكاشة أحمد عثمان. لأجلها قضي حياته..لسانُ العرب لابن منظور عكفَ عليه ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين)ٌ
ثم والدُنا يطربُ حين يخطبُ الرجل فصيحاً ذّرب اللسان بليغاً في المحافل والندوات.
الروائي العالمي الطيب صالح في مؤتمر مؤسسة الفكر العربي بالقاهرة 2002م يستحثُني وصحابته صلاح أحمد محمد صالح وحسن أبشر الطيب لحضور ورقةِ الرجل يعُدها مضماراً يستبقُ فيه في جحفلٍ من المفكرين عاربة ومستعربة.
الرجل بين السياسيين تتنوعُ اهتماماته بين الفكر السياسي والتاريخ الإجتماعي والفنون الأدائية والرياضة الروحية والبدنية والكمال لله وحده.
ياحبيب..
ياالفووتك مو داحين..
لبني يوسف..ليس ثمت عزاء يُضارعه سوي مااعتزي به جورج جريس فرح في رثاء أمه بقصيدته مولدالخلود:-
كيف يا أمّاهُ كفَّ الخفقُ في الصَّدرِ؟
بل كيفَ واراكِ الترابُ ولجَّةُ القبرِ؟
أهُناكَ بَعدُ مواجِعُ؟
أهُناكَ عينٌ تدمَعُ؟
أم راحةٌ وسكينةٌ وسَلامةٌ وتمتُّعُ؟
فارقتِنا في لحظةٍ في غفلةٍ وتركتِنا مِن أمرِنا في حَيرَةٍ
لا يشفَعُ فيها العَـزاءُ،
فلا الدُّعاءُ ولا الرَّجَاءُ ولا السَّماءُ ستُرجِعُ
زيتَ السِّراجِ إلى السِّراجِ ولا الضِّياءَ فيسطُعُ..
أيظلُّ كأسُ الحبِّ يا أمّأهُ يروي شاربَه؟
أيظلُّ يدفقُ بالحنانِ، وإن عدِمنا ساكبَه؟
أيظلُّ يسقينا فيروينا وأنتِ الغائبة؟ ما أصْعَبهْ!
هذا الوَداعُ المرُّ أيّْ! ما أصْعبَهْ!
لن أقرُبَهْ، لن أطلُبـَهْ،
بل جئتُ أطلبُ زادَ حُبٍّ
زادَ قلبٍ
زادَ دَربٍ مِن حنانِكِ يُشبِعُ
ويوزَّعُ بين المعزّينَ الذينَ أتَوا إليكِ ليشهَدوا ويؤكّدوا أن الرَّحيلَ عنِ الحياةِ بدايةٌ
بل مَولدٌ لخلودِ ذِكرى في القلوبِ ومَرتَعُ