أعمدة

فلسفة البؤس!

 

بقلم✍🏽 دكتور علي بلدو

لم يكن صراع المال و السياسة و تنازع المصالح و نزاعات السلطة و الثروة و الجاه و السلطان , لم تكن وليدة الامس و اليوم بل تضرب بجذورها في اعماق التاريخ الحديث و القديم و تعود لماضي سحيق و يا له من ماض للذكريات.
و كم من مبدع ومفكر و كاتب و شاعر و نحات لقى حتفه قتلا و شنقا و حرقا لمجرد خلافه مع سلطان جائر و حاكم ظالم و حاشية فاسدة و بطانة من علماء السؤ، و شيوخ الدعارة و السباب و اللعاب و من المهوسيين و الموسوسين و عديمي الاداب، و من الذين شغلوا بالدنيا فخسروا دنياهم و اخرتهم معا، و كانوا كما قال الله تعالي في حديثه القدسي ( يا عبادي لا تسالوا عني عالما اسكرته بحب الدنيا، فاولئك هم قطاع الطرق علي عبادي)، و لعله من هنا ظهرت تسعة طويلة الدينية منذ ذياك الزمان و الي هذا الزمن.
و قد كان ظهر ببغداد سنة ثمان و ثلاثمائة رجل يعرف بالحسين بن منصور الحلاج و كان رجلا بسيطا عاملا و مهذبا و لم يسرق و لم ينهب و لم يتحلل كما يفعل الاخرون:
اينما ما مشى
كيفما جلس
لا يقولوا سرق
حاشا ما اختلس
و كان الحلاج ياكل من عمل يده لا من قوت الشعب و مال اليتامى و المعاشيين و الارامل, و لم يكن جالسا لينتظر اعانات الدول الخارجية و زكاة اهل البر، كما لم يكن ساجدا راكعا بابواب السفارات و المتظمات المشبوهة ليبيع بلده و كل شي نظير دراهم معدودة، و لم يتاجر بالدين و لا بدم شهيد، و لا بانين جريح و اهات مفقود و يقضي وقته في التسفار و لغو الحديث، و كان الحلاج يدعوا الناس لعبادة الله تعالى و الحاق القول بالعمل و كما كان يذهب لاهل السلطان و حاشيتهم الفاسدة و هو يقف على موضع الاموال و الذهب و يقول:

معبودكم تحت قدمي، و كان يقول للناس لما راي الباطل مستشريا انه هو الحق!
و هو ما جلب له سخط مجلس شورى السلطان فوشوا به للوزير علي بن عيسى فاحضره و حكم عليه ايجازيا بالجلد الف سوط حتى تقطعت اعضاءه و لكنه لم يتاوه و لم يتالم و لم يتجرس و لم يكتب تعهدا و لم يتحول لشاهد ملك كما فعل بعض الرجال المحترمين جدا و لكنه كان ينشد :
و حرمة الود الذي لم يكن يطمع في افساده االدهر
ما نالني عند نزول البلا جهد و لا مسني الضر
ما قد لي عضو و لا مفصل الا كان به يا رب لكم ذكر
و كان يمشي فاذا سمع القران يتلى يبكي و يتواجد و ترتفع رجلاه هياما من على الارض و هو يقول:

من اطلعوه على سر فباح به لا يامنوه على الاسرار ما عاشا
و عاقبوه على ما كان من زلل و الزموه مكان الانس ايحاشا
و لما فاض الكيل باهل السلطان وجهوا له تهمة تقويض النظام لكونه يدعوا للحق و تهمة الازعاج العام لذكره الله جهرا في الليالي و كذلك تهمة الثراء الحرام لعثورهم علي دينار بخزانته و ايضا التجمع المحظور لاقامته حلقات الذكر و ووجهوا له ايضا تهمة الاشتراك الجنائي لقيامه بتلقين اتباعه اصول الدين الجد الجد و ليس دين العسس و الجند و حاشية السلطان الفاسدة و المرتشية و المفسدة’ و تهمة التخابر مع جهات اجنبية لسبره غور الناسوت و الملكوت، و لبس هذا فحسب، بل و ايضا تهمة اثارة الفتنة بين الطوائف، لحبه الخير للمساكين، و بعدها قدموه لمحاكمة صورية و نطق قاضيها بالاعدام صلبا و شنقا , و ليتقدم بعدها الحلاج مبتسما و هو يختتم صلاته و ينشد باخر ما قاله قبل انتقاله لعالم العدل و الحق:
اقتلوني يا ثقاتي ان في قتلي حياتي
و مماتي في حياتي و حياتي في مماتي
و امهلوني كي اصلي و لتروا كيف صلاتي
و ضعوا القران فوقي انه حبل نجاتي

مات الحلاج و ابن الثلاثين من العمر و بكاه الناس سرا و اهل الحظوة و التمكين جهرا و علنا , و لازلنا نرى الي اليوم حلاج هنا و اخر هناك و هو يعاني و يموت ببطء بسيف السياسة التي تقطع عنق الابداع و تقتل المبدعين و ما اكثرهم.وليس ذاك السيف عنا ببعيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى