مقالات

الانتفاضة السودانية 1985 هكذا بدأت،، وهكذا انتصرت الحلقة الثالثة عشر – الوضع في الجنوب كما بدا قبل هروب الكتيبة 105

بقلم / بابكر عثمان

في عام 1982 ، عقب مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية اديس ابابا وما بدا للعامة أن الحرب قد توقفت الى الابد ، كان الرئيس جعفر نميري ممزقا بين أكثر من رأي بشأن مستقبل السلام في جنوب السودان، فزمرة الاستوائيين وبعض قبائل بحر الغزال ويناصرهم قطاع عريض من كبار قادة الجيش يناضلون من اجل تقسيم جنوب السودان الى أقاليم ومديريات بحيث تنفرد قبائل كل إقليم بالهيمنة علي اقليمها، ويعارض هذا التوجه قبيلة الدينكا ( اكبر قبيلة منفردة في جميع انحاء السودان ) كما يقود مناهضة التقسيم احد اكبر الزعماء السياسيين ليس في جنوب السودان وحده بل في السودان اجمع ( القاضي ابيل الير)

وكما اشرنا سابقا فقد فاز بالأغلبية في برلمان الجنوب الجناح المؤيد للتقسيم وتم تشكيل حكومة في عام 82 برئاسة جوزيف جيمس طمبرة، وفي أوائل مارس 83 اقر الاتحاد الاشتراكي (الحزب الحاكم الوحيد) قرار تقسيم الجنوب الى ثلاثة أقاليم ، وكان على الرئيس نميري ان يؤيد او يعارض ذلك القرار ولكنه فضل تأييده.

في هذه الأثناء كانت هناك معضلة أخرى وهي وجوب البدء في غيار كتائب من قوات الانانيا المستوعبة في القوات المسلحة من مواقعها في الجنوب الى مناطق في الشمال ، وتم تحديد ثلاث كتائب من مختلف مناطق في الجنوب ( الكتائب 110 -117 -105 ) للانتقال الى الشمال وكانت كتيبة واحدة على الأقل تقاوم هذا النقل بقوة وصلت الي حد العنف ( الكتيبة 105) المتمركزة في بور، ففي عام واحد اصدر الرئيس نميري بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ثلاث قرارات متناقضة بهذا الخصوص ، فقد تم في عام 81 إقرار خطة من القوات المسلحة بنقل هذه الكتائب الى نيالا – الأبيض – شندي – كسلا ، وتم وضع كل الترتيبات الإدارية والأمنية والعسكرية للبدء في تنفيذ الخطة ولكن الرئيس نميري وبعد ان وافق على الخطة عاد والغى قرار التنفيذ بناء على نصيحة تلقاها من رئيس حكومة الجنوب جوزيف طمبرة في نوفمبر 82 بدعوى ان تمردا واسع النطاق سيندلع في الجنوب، وطار اللواء صديق البنا قائد الفرقة الأولى وهو من أكبر المؤيدين لخطة غيار القوات ، طار مسرعا الى الخرطوم ليقدم تقريرا مطولا للرئيس نميري مفاده ان عدم تنفيذ هذه الخطة هو ما سيؤدي الى اشتعال النيران في الجنوب ، وعقب ذلك التنوير والذي استغرق ساعة وحضره الفريق توفيق ابوكدوك رئيس هيئة العمليات في القوات المسلحة اصدر نميري قرارا جديدا موجها لرئيس حكومة الجنوب ( جوزيف طمبرة ) بالاستمرار في تنفيذ خطط نقل الكتائب المستوعبة الثلاث الى الشمال.

ودون الخوض في تفاصيل قد تبدو شائكة وعصية على المتابعة فإن الوضع في الجنوب ابتداء من مطلع يناير 1983 بدأ ينحدر بسرعة وقوة الى الانهيار الى حرب جديدة قوامها هذه المرة قبائل الدينكا والنوير في أعالي النيل وبحر الغزال المعارضة للتقسيم والمتوجسة من هيمنة شمالية مزعومة ، أما هاجس الشمال فكان يتركز على ان اقليما جنوبيا موحدا سيكون مغريا لتعزيز نمو التوجهات الانفصالية، فمعارضو التقسيم يتطلعون الى جنوب موحد ، كما ان عدم الإسراع في نقل بعض الكتائب الجنوبية الى الشمال سيدعم الحركات الانفصالية الآخذة في النمو حيث تستند تلك الحركات ( الانانيا 2) والتي بلغ قوام قواتها في مارس 1983 نحو 3500 جندي والشخصيات الانفصالية على وجود هذه الكتائب لتنفيذ مخططاتها.

في ظل هذا الوضع المضطرب وبينما قامت كتيبتان ( 110 -117 ) بتنفيذ قرارات النقل وجاءت قوات شمالية إضافية الى الجنوب في يناير 83 استعد كل طرف الى القيام بضربة استباقية على ضوء هواجس تمرد الكتيبة (105 ) ، فقائد القوات المسلحة في الجنوب اللواء صديق البنا ، كان يقول ( لن نسمح للجنوبيين بالقيام بضربة أولى يقتلون فيها أبناء الشمال كما حدث عام 1955 ) و دعا الى القيام بضربة استباقية للكتيبة ١٠٥ في بور بأعالي النيل و تجريدها من السلاح ، ووضع خطة للحرب اطلق عليها ( البرق الخاطف ) وتم نجهيز قوات للتدخل السريع في جوبا.

أما الجنوبيون من ضباط وسياسيين فقد بدأوا ينتقلون الى بور استعدادا للمعركة الفاصلة ، حيث تقرر ان تنفذ الكتيبة 105 قرار النقل في 15 مارس 83 وكان اول الواصلين الى بور السياسي الجنوبي المخضرم ابيل الير بناء على ترتيبات مسبقة ، وتبعه العقيد جون قرنق في 25 ابريل حسب المعلومات الاستخبارية حيث وصل أولا الي ملكال ومنها الي جوبا في 26 ابريل، الغريب في الأمر ان كل تلك التحركات والاجتماعات التي يعقدها قادة جنوبيون معارضون للتقسيم او مؤيدون لعدم نقل الكتائب الجنوبية للشمال كانت مرصودة من الاستخبارات العسكرية وجهاز أمن الدولة ، غير ان الخيارات السياسية او الأمنية او العسكرية كانت محدودة ويجب التفكير فيها بحذر لعدم تفاقم الموقف.

وجاء الموعد المحدد في مارس 83 لتنفيذ قرار الغيار ولكن الكتيبة 105 لم تقم بالتنفيذ و في نفس الوقت تقاطر على بور مقر الكتيبة عدد من السياسيين والعسكريين الجنوبيين المعارضين للتقسيم والمتحفزين للتمرد واقتربت قوات الانانيا 2 من المدينة علي بعد 50 كيلومترا فقط ، كما تفاطر على جوبا عدد من الدبلوماسيين وعلي رأسهم السفير الأمريكي بل ، وشهد شهد ابريل كما اسلفت قدوم العقيد جون قرنق الي جوبا في طريقه الى بور حيث تقيم زوجته وابناءه ، ولم يبلغ قيادة القوات المسلحة في جوبا الا بعد نحو أسبوع و تم تحذيره من السفر الى بور ولكنه غافل إدارات الاستخبارات العسكرية وتسلل الى بور في مساء الخامس من مايو 83 بمساعدة من الرائد طون اروك طون ممثل القوات المسلحة في الاتحاد الاشتراكي عن جنوب السودان آنذاك.

ولكن في الصباح السابق لذلك الهروب كانت القاعة الكبرى في القصر الجمهوري تشهد اكبر وأخطر اجتماع لمجلس الدفاع الوطني وهو أعلى هيئة للأمن الوطني برئاسة نميري وحضور نواب الرئيس – عمر محمد الطيب وجوزيف لاقو والفريق فتحي عمر ابوالحسن وزير الدولة للدفاع والفريق عبدالرحمن سوارالدهب – الفريق نائب القائد العام للقوات المسلحة يوسف احمد يوسف رئيس هيئة الأركان للإدارة – الفريق توفيق ابوكدوك ورئيس هيئة الأركان للعمليات –العميد السر محمد احمد رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية والعميد فضل الله برمة ناصر رئيس هيئة العمليات – السيد جوزيف طمبرة رئيس حكومة الجنوب واللواء صديق البنا قائد الفرقة الأولى مشاة في جنوب السودان ، ولم تتم دعوة الأعضاء المدنيين في هذا المجلس ومنهم الدكتور حسن الترابي – مستشار الشئون الخارجية والدكتور شريف التهامي وزير الطاقة.

انقسم المتحدثون الرئيسيون في ذلك الاجتماع بين مؤيد لضربات عسكرية حاسمة ومحدودة (الفريق صديق البنا) لإخضاع الكتيبة 105 وبين معارض لتلك الضربات (الفريق توفيق ابوكدوك) بحسبان انها ستخلق حالة من التشويش قبل تتويج نميري بفترة رئاسية ثالثة في 25 مايو 83 وبين متردد في العمل العسكري (العميد فضل الله برمة ناصر )

في الحلقة القادمة سنستعرض بتفاصيل أكثر تداعيات ذلك الاجتماع الخطير والذي وضع السودان مرة أخرى في طريق الحرب المدمرة في جنوب السودان والتي عمقت وسرًعت من انهيار نظام نميري المتداعي وقتها.

تابعوني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى