انتفاضة ابريل ١٩٨٥ هكذا بدأت وهكذا انتصرت

الحلقة الثانية – صراعات ماقبل الانتفاضة
بقلم/بابكر عثمان
اندلعت المظاهرات رسميا في 26 مارس 1985م بخروج طلبة جامعة ام درمان الاسلامية احتجاجا على خطاب الرئيس نميري امام اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي والذي كال فيه الشتائم للشعب السوداني وإتهمه فيه بالتبذير وعدم الوعي، سأستعرض هذا الخطاب فيما بعد ولكن الذي يهمني الآن هو استعراض احداث جامعة الخرطوم في فبراير 1985م والتي ادت فيما بعد الى انفعال الرئيس نميري.
لم يكن اتحاد جامعة الخرطوم او اتحاد جامعة ام درمان الاسلامية خاضعين للاتجاه الاسلامي الواجهة الرئيسية لتنظيم الاخوان المسلمين بقيادة د. حسن عبدالله الترابي لذلك كان الصراع عنيفا ببن الاتجاه الاسلامي وقادة هذه الاتحادات والتي يسيطر عليها الانصار “الصادق المهدي” والاتحاديون والشيوعيون المتحالفون تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي في جامعة الخرطوم و(التضامن الإسلامي ) في جامعة ام درمان الاسلامية غير ان هذا الصراع كان اشد عنفا في جامعة الخرطوم وفي اطاره تبنى الاتحاد احد الطلبة المنشقين عن الاتجاه الاسلامي ( عماد محمد بابكر ) طالب الطب والذي اصدر بيانا كال فيه هجوما عنيفا على طلبة وطالبات الاتجاه الاسلامي بالجامعة ووصفهم بالاباحية وبالاختلاط غير المشروع في انصاف الليالي بدعوى الاجتماعات التنظيمية، وكان يمكن لهذا البيان ان يمر مرور الكرام لولا قيام اتحاد الجامعة والذي يسيطر عليه ( التجمع الوطني الديمقراطي ) بطباعة الاف النسخ منه في مطابع الاتحاد.
لم يكن غضب الاتجاه الاسلامي منصبا على هذا الطالب المنشق انما على اتحاد الطلاب الذي تبنى بيانه متخطيا الدستور والاعراف، فقرر الاسلاميون في الجامعة تلقين اعضاء الاتحاد درسا، فهجموا عليهم في الداخليات وأوسعوهم ضربا، في اشهر احداث تشهدها الجامعة في تاريخها مما ادى الى تدخل رجال الشرطة وإغلاق الجامعة الى اجل غير مسمى، وبعدها امر الرئيس جعفر نميري بإجراء تحقيق في هذه الاحداث التي لفتت انظار الرأي العام وأنظار اجهزة الامن على نحو خاص.
كانت هذه الاحداث في مطلع فبراير ولم يكن نميري قد اتخذ بعد قراره بفض تحالفه مع الاسلاميين غير ان تصريحاته التي نقلتها عنه الصحف تبين امتعاضه من هذا التحالف، فقد اشار في معرض تعليقه على هذه الاحداث بقوله انها تعتبر مؤشرا خطيرا يعكس ما اطلق عليها ” الضلالات الايدلوجية القديمة البائدة التي لفظها الشعب فلجأت الى دور العلم لتسمم عقول الطلاب بأفكارها التي اورثت الوطن الشقاق والضعف” الايام 1 مارس 1985م.
زيارة بوش
اتخذ نميري من هذه الاحداث ذريعة فيما بعد ليشن هجوما عنيفا ومثقلا على الاتجاه الاسلامي واصفا اياه في خطاباته اللاحقة عقب فض التحالف ” بالجماعة الباغية التي نكصت العهود والمواثيق”.
ورغم ان احداث جامعة الخرطوم سبقت زيارة نائب الرئيس الامريكي آنذاك جورج بوش وهي الزيارة التي اعقبها مباشرة إعلان فض التحالف واعتقال قادة الاتجاه الاسلامي وعلى راسهم د. حسن الترابي إلا ان معظم المراقبين يربطون بين هذه الزيارة وما تبعها من تطورات على الصعيد الداخلي.
وصل نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الخرطوم في مساء الاثنين 4 مارس واستقبله في المطار اللواء عمر محمد الطيب نائب الرئيس وفي تصريحات صحفية له بالمطار اكد بوش متانة العلاقات السودانية الامريكية كما اكد استمرار المعونات الامريكية للسودان واشاد بموقف الحكومة السودانية من ضحايا الجفاف والحرب وفي اليوم التالي التقى الرئيس جعفر نميري وسلمه رسالة من الرئيس رونالد ريجان، فيها تأكيد جديد على استمرار المعونات الامريكية كما التقى باللواء عمر محمد الطيب واستعرضا التهديدات الخارجية لامن السودان حسبما جاء في صحف تلك الايام وبعد ذلك سافر الى كسلا في شرق السودان لتفقد احوال اللاجئين الارتريين والاثيوبيين والى الابيض لتفقد معسكرات النازحين المتضررين من الجفاف والتصحر وكان الوضع آنذاك على المستوى الغذائي حرجا للغاية بسبب استفحال الحروب بين الثوار الارتريين والجيش الاثيوبي مما ادى الى هجرة عشرات الالاف من اللاجئين الى شرق السودان، وانشئت معسكرات على الحدود وبالقرب من المدن السودانية الكبيرة مثل كسلا وخشم القربة والقضارف ومدني وتشير بعض التقديرات الى ان اللاجئين بحلول عام 1985م وصلت اعدادهم الى ما يفوق نصف مليون لاجئ ، يحتاجون الى معونات عاجلة، وفي الجانب الآخر ضربت المجاعة مناطق غرب السودان بسبب الجفاف والتصحر، كان ذلك عام 1983م واستفحلت الازمة الى حدودها القصوى في النصف الثاني من عام 1984م وطلب النظام مساعدات غذائية، غير أن الدول الغربية المانحة رفضت التجاوب واشترطت اعلان حالة المجاعة أولا، مما اضطر النظام الي اعلان مقتضب في 31 ديسمبر 1984م بإعلان المجاعة في السودان .
لقد جاء بوش الى السودان تحت زعم تفقد احوال اللاجئين والنازحين في مناطق الشرق والغرب وبالفعل سافر الى هذه المناطق ولكن ماتبين فيما بعد ان اجندته تضمنت مهمات اخرى منها ترتيب الاوضاع الداخلية للنظام ودفعه في طريق النكوص عن تطبيق التشريعات الاسلامية وفض التحالف مع الاسلاميين.
الواضح أن بوش بعد مكوثه في السودان اربعة ايام واطلاعه على احوال البلد ومن ثم عودته الى بلاده أحس ان النظام فقد قوة الدفع الطبيعية وان الرئيس نميري لم يعد رجل المرحلة.
الانقلاب الرابع
شهدت ثورة مايو “69 – 1985″ اربعة انقلابات سياسية رئيسية – اذا جاز التعبير – غيرت جلدها بعد كل انقلاب.
الانقلاب الاول كان على الشيوعيين عام 1971م حيث اعلن نميري بعد الانقلاب الذي قاده هاشم العطا وبابكر النور في ذلك العام سياسات جذرية اخرجت النظام من الخط اليساري الى الخط اليميني المتطرف. ويعتقد معظم الذين أرخوا لهذه الفترة ان الضربة التي وجهها النظام للشيوعيين في السودان كانت قاصمة.
اما الانقلاب الثاني فهو المصالحة مع الاحزاب في عام 1978م فالنميري اعلن في ذلك الوقت انه سيتصالح مع الشيطان اذا رأى في ذلك مصلحة للسودان، ودخلت رموز الاحزاب في مؤسسات النظام السياسية والتشريعية وبالتالي تغيرت سياسات وعدلت توجهات.
الانقلاب الثالث حينما اعلن النميري قراراته الثورية بتطبيق الشريعة الاسلامية في سبتمبر 1983م وتبعا لهذه القرارات تبدلت سياسات ووجوه وكانت هذه السنة والتي تلتها بمثابة شهر عسل بين النظام والاتجاه الاسلامي، ولكن سرعان ما انتهى بالانقلاب الرابع الذي نحن بصدده الآن.
ففي مساء الاحد 11 مارس 1985م اذاع نميري بيانا مطولا للأمة السودانية عبر اجهزة الاعلام المسموعة والمرئية اعلن فيه قراراته المفاجئة بإبعاد الاخوان المسلمين عن السلطة، مدعيا انهم يخططون للإستيلاء على الحكم من خلال اسلوب المهادنة ثم المشاركة ظاهريا فالتغلغل ثم الاستيلاء على السلطة بأسلوب البديل المناسب في الوقت المناسب، واستعرض نميري في ذلك الخطاب الذي اتسمت كلماته وتعبيراته بالغضب ان الاخوان المسلمين او ” الفئة الباغية” كما ظل يردد استعملت اساليب عديدة لتقويض النظام منها الاشاعات الكيدية واستغلال الطلاب في المواجهات وتدمير الاقتصاد واشعل نميري حوادث جامعة الخرطوم ليدعم هذه القرارات والسياسات وواكب هذا الاعلان او سبقته اعتقالات واسعة في اوساط الاتجاه الاسلامي شملت معظم القيادات مثل د. حسن الترابي واحمد عبدالرحمن ويس عمر الامام وعلي عثمان محمد طه وغيرهم من كبار القادة ممن يتولون مناصب دستورية في الحكومة.
واضطرت الصحف السودانية ” الايام – الصحافة” على مدى اسبوع لتخصيص اكثر من صفحة لمتابعة هذه التطورات.
وخرجت المظاهرات تؤيد هذه القرارات وخاطب نميري حشدا جماهيريا ممن يطلقون عليهم قوى التحالف ليقول انه على مدى شهور كان يتابع ما اسماه ” تآمر الاخوان المسلمين واجتماعاتهم السرية”.
وفي جانب اخر انهالت عليه البرقيات تؤيده وتحثه على اتخاذ مزيد من القرارات و خلال ستة ايام اصدر قرارات جمهورية اجرى فيها تعديلات وزارية حيث تم تعيين الفريق اول عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب وزيرا للدفاع وقائدا عاما لقوات الشعب المسلحة والفريق تاج الدين عبدالله نائبا للقائد العام ورئيسا لهيئة الاركان عمليات وشملت القائمة عددا آخر من الوزراء ووزراء الدولة، وفيما بعد تولى هذان الرجلان المناصب الرئيسية في المجلس الذي اطاح به في ثورة عارمة في 6 ابريل 1985م.
في الحلقة القادمة
ماذا قال نميري في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي؟ وهي التصريحات التي أغضبت الطلاب والشعب معا .
كيف دبر طلاب الاسلامية للخروج في مظاهرة اطاحت بالنظام فيما بعد…
تابعوني